مراجعة الأستاذ موسى أبو رياش لرواية #تراتيل_الخلود_والفناء على صفحات جريدة القدس العربي:
الإبداع بشكل عام بمختلف فنونه وأشكاله، يحمل فكر صاحبه ومعتقداته وآراءه ووجهات نظره، ويكاد لا يخلو عمل إبداعي من رسالة موجهة، أو سلوك مستهدف، أو غاية مقصودة، وهذا من حق المبدع أن يقول ما يشاء، لكن يكمن إبداع المبدع في التلميح، دون التصريح، وتضمين ما يريد بذكاء وبراعة، وتوظيف اللغة ومجازاتها وانزياحاتها وبلاغتها في قول ما يريد؛ مستهدفا القارئ، وقد يلجأ إلى الصراحة والوضوح، لكن في سياق إبداعي سلس يبتعد عن المباشرة والتنظير والأستذة والإملاء والفوقية.
إن أي منتج إبداعي هو منحاز بالضرورة، فلا يتجشم الكاتب، أو الفنان عناء العمل وبذل الجهد والوقت، إلا لإيصال رسائله في ثنايا عمله، وبث أفكاره، والتعريف بوجهات نظره في قضايا ومشكلات خاصة وعامة، محلية وعالمية؛ فالمبدع ينحاز إلى الجمال والحب والحرية والعدالة والإنسانية والسلام والمساواة والتعاون والأخلاق الحميدة والقيم الجميلة، ويرفض الظلم والقهر والعدوان، والاستعباد والاستغلال، والحرب والجشع والفساد، والإرهاب والتطرف والإقصاء والقبح بكل أشكاله ومظاهره، وقد يكون من المستحيل أن نقع على عمل إبداعي لا يقول شيئا، أو لا يثير أسئلة تستوجب التفكير والتأمل.
وقد اكتنزت رواية «تراتيل الخلود والفناء» للروائي الأردني ليث التل، بعدد كبير من الأفكار والآراء والرسائل، ووجهات النظر، حول قضايا وجودية وفكرية وسياسية وثقافية وتاريخية واجتماعية وغيرها، فشكلت وجبة دسمة للقارئ، لكنها جاءت في إطار حواري خفف من وطأتها، وتميزت بالوضوح دون تعقيد أو غموض.
الإعلام
أولت الرواية الإعلام أهمية كبيرة، لعظيم شأنه وتأثيره وخطورته، فهي ترى أن وظيفة الإعلام نقل الحقائق والأحداث لا صناعتها، لكن خرج الإعلام عن خطه، فأصبح يصنع الأخبار، ويزور الحقائق، وبالتكرار والإصرار يستوطن العقول، ويثبت ما يريد. كما أن الإعلام أصبح سلاحا خطيرا بيد السلطة، تسخره كما تشاء لتوطد أركانها، بل إن وسائل الإعلام أصبحت جزءا من السلطة الحاكمة، ترفع وتنفخ من تشاء، وتخفض وتشيطن من تشاء. أما حرية الإعلام فهي محض وهم، وجزء من مخطط الخداع للناس إنهم يمارسون الحرية، لكنهم في حقيقة الأمر عبيد للشركات وللسلطة. وعن الفضائيات، ترى الرواية أنها تمثل موكب جواري السلطان التي يفتخر بما تقدمه مذيعات ذوات شعر ذهبي، يتحدث الجميع عن حسنهن وجمالهن، وينسجون حولهن الحكايات والخرافات.
الكتابة
ترى الرواية أن نجاح الكتابة الأدبية مرهون بتحقق الشروط المتباينة بين العامة والناشرين، ففي حين ترفض العامة مخالفة موروثاتها، ولا ترضى مواجهة الحقائق التي تعريها أمام نفسها، فإن الناشرين لا يقبلون إلا ما وافق الفكر السائد والعرف الدولي الطاغي، والأولوية للنص الذي يتضمن مشاهد جنسية وتجديفا.
تتفق الرواية مع أن «الإبداع الأدبي هو فن الحذف» مؤكدة أن الكاتب يعز عليه أن يحذف شيئا مما يكتب، لكن إن لم يحذف أكثر مما يبقي فليس بكاتب. وقد يكون هذا رأيا متطرفا، فالكاتب مع تراكم الخبرة والممارسة يقتصد ويوجز في الكتابة، ويتحاشى الحشو والاستطراد. ولا تعترف الرواية ـ كما يبدو- بالتخطيط لكتابة الرواية والكتابة القصدية، وترى أن الرواية هي تلك التي يكتبها الكاتب وهو في حالة من الغيبوبة والانسياق والانسلاخ عما حوله. وهذا رأي خلافي، فالبعض يرى أن كتابة الرواية يمكن أن تكون صنعة تتطلب تتطلب تخطيطا ودراسة وبحثا، كما أنه يمكن التدرب على كتابتها من خلال الورش المتخصصة المنتشرة هذه الأيام، وهذا لا يتعارض بالطبع مع الإلهام وشيطان الكتابة كما يقولون.
تزوير التاريخ
إذا كان يسهل خداع الناس في حاضرهم، وإقناعهم بالأكاذيب والأباطيل، فإن من السهل تزوير التاريخ وشراء الذمم، وصنع الأمجاد، خاصة مع تسخير الإعلام الذي يستطيع قلب الحقائق، وترسيخ الأوهام. وفي الرواية حكاية أدموت التي صنعت لها تاريخا عريقا من لا شيء، فبفضل ذهبها نسج لها مثقفوها الأساطير والإنجازات الخارقة، واعتمادا على سلطة إعلامها وسطوتها على البيت والمدرسة والثقافة، صدقها حتى مؤلفوها، واستعانت أدموت بخبرات عالمية، فجعلت من الأسطورة حقيقة، ومن الخيال تاريخا. ولم تكتف أدموت بتزوير التاريخ، بل اشترت الناس بذهبها كما الآلات، فاشترت المواهب والكفاءات والخبرات في كل المجالات حتى في المنافسات الثقافية والرياضية العالمية، وعلى الرغم من أن حضورها يشكون في أصل هؤلاء، للاختلاف الصارخ بينهم وبين أهل أدموت الأصليين، إلا أن بريق الذهب يسكتهم. وأن سياسة أدموت اعتمدت أيضا على تضخيم الإنجازات؛ لأن «في تضخيم الإنجاز إنجاز».
(تؤكد الرواية أن الأمل هو أكبر دافع للشعوب، وأنه يدفعها لخوض المخاطر من أجل الأفضل؛ والدليل أن الشعوب تقاوم محتليها وغاصبي حقوقها، ولولا الأمل لخنعوا وتقبلوا الأمر الواقع، لكنهم يدركون أن واجبهم يقتضي أن يخوضوا غمار المغامرة للتخلص من القيود وإن كانت ذهبية.)
العلاقة مع السلطة
القرب حجاب كما يُقال، ولذا تؤكد الرواية أن القرب من أرباب السلطة يقتل الإنسان ويتركه أسير نزواته وشهواته؛ لأن مرافقة أصحاب السلطة تتطلب الموافقة لهم، والتبرير لما يفعلون، والقبول بخيرهم وشرهم، ما يؤدي إلى محاكاتهم في سلوكهم وأخلاقياتهم عن قناعة وإيمان. وفي المقابل فإن الاختلاط بعامة الناس، يعني أن ترى الأمور على حقيقتها، دون تزوير أو خداع، وعند العامة يوجد الحب والطيبة والكرم الحقيقي.
وتشير الرواية إلى أن ما يعزز انحراف السلطان ويسارع في سقوط الدول طاعة الشعب العمياء، وبطانة ونخب جاهزة للتبرير، تزعم للسلطان حقوقا إلهية لتجبر العامة على الانقياد والخنوع، وأن هذه النخب هي سبب الهزائم والفساد والتخلف لا الرعاع. وتحذر أن من يرضى أن يكون مع القطيع الذي ترعاه السلطة، فإن مصيره الذبح لا محالة، وتدعو إلى نفض غبار الأوهام، وعدم تصديق المزاعم، بالاهتمام بالقراءة والعلم والبحث. كما تشير الرواية إلى أن السلطة تكرس ثقافة الاستعراض والتباهي بالاستهلاك على حساب الإنتاج، وهذا سيؤدي بالضرورة إلى ضياع الطرفين. وفي تأكيد لحقيقة أيدها التاريخ فإن «جلجلة سقوط الأصنام تؤلم عُبّادها».
مغامرة التغيير
تؤكد الرواية أن الأمل هو أكبر دافع للشعوب، وأنه يدفعها لخوض المخاطر من أجل الأفضل؛ والدليل أن الشعوب تقاوم محتليها وغاصبي حقوقها، ولولا الأمل لخنعوا وتقبلوا الأمر الواقع، لكنهم يدركون أن واجبهم يقتضي أن يخوضوا غمار المغامرة للتخلص من القيود وإن كانت ذهبية. وفي السياق ذاته، تؤكد أن من يريد الوصول إلى أهدافه السامية لا بد أن يركب المخاطر ويصارع الأهوال، أما طريق السلامة فلن توصل إلى شيء، ولن تأتي بالإجابات المطلوبة.
وتتناول الرواية أفكارا أخرى كثيرة حول أمور مختلفة مثل: الصلاح، وثقافة التعالي والتفاخر، والمسؤولية الجماعية، والشخصية الواعية، وصفات المجموع، وقيمة الكلمة، والخلود والفناء، والهزيمة والتاريخ، وتأثير القرارات الشخصية، والجبر والاختيار، المظهر والجوهر، الأمور المعلقة، تقليد المنتصر، وغيرها كثير. وقد نتفق كقراء مع مقولات الرواية أو نختلف، لكن هذا لا يقلل من أهمية طروحاتها، وما تثيره من إشكاليات وأسئلة، وإعادة نظر في بعض الأمور، ومحاكمة قناعات، والنظر من زوايا مختلفة، ولعل هذا ما تقصده الرواية ابتداءً، والأصل أن يكون هدف كل رواية؛ أن تثير في العقل كوامن الأسئلة، وتحرك راكد الفكر، وتستفز القارئ للبحث والنظر والتأمل، بعيدا عما وقر في قلبه وعقله، وتكرس في حياته مسلمات لا تقبل النقاش.
إن «تراتيل الخلود والفناء» عمان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2021، 303 صفحة للأردني ليث التل، رواية الأسئلة المتناسلة، والأفكار المتدفقة، والقضايا الوجودية، كتبت بقصدية واضحة، ورمزية كاشفة؛ لإيصال رسائل الكاتب، ونشر أفكاره، وهي رواية تناسب وتجذب القارئ المتأمل الذي يبحث عن المختلف والجدلي الذي يثير تفكيره، ويعكر صفو السائد، وفي المقابل، لن تستهوي القارئ العجل الذي تهمه المتعة الأدبية والإثارة والتشويق. وهي الرواية الثانية للكاتب، بعد رواية «آخر الرجم» 2019.
كاتب أردني