الاثنين، 26 أغسطس 2024

مراجعة أمواج أبو حمدة لرواية تراتيل الخلود والفناء

 

رواية "تراتيل الخلود والفناء" للكاتب والمهندس ليث التل. صدرت عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع عام ٢٠٢١. هي الرواية الثانية للكاتب من مجموعته الروائية المكونة من ثلاث روايات حتى الآن. الكاتب ليث طارق التل

رواية "تراتيل الخلود والفناء" رواية شدتني بدءا من مقدمة الكتاب التي يبوح فيها الكاتب عن فكرته عن الكتابة ومحفزاتها. رواية حافلة بالأفكار ووجهات النظر حول العديد من القضايا الوجودية والإجتماعية والفكرية والسياسية. تطرح الأسئلة برمزية ذكية وبدون تعقيد، لكن بقصدية واضحة وفلسفة عميقة، وتبحث في كل ما هو جدلي ويثير التفكير. الرواية مبنية على عدد لا بأس به من الشخصيات غير المترابطة كل لها قصتها، وكل لها مدينتها. تماما كشخصيات العمل، فالمدن هنا أيضا مدن متخيلة لكل منها سماتها وسيادتها وجغرافيتها ولون خاص يعكسها. تكون الفصول الأولى من "تراتيل الخلود والفناء" مربكة بعض الشيء سعيا لربط الأحداث المتفرقة وفهم جميع الأبعاد والمسارات والرمزيات. لكن هذا الإرباك يأتي بأسلوب شيق وسلس ومثير وحبكة متقنة وفلسفة جميلة فيستحوذ على انتباه القارىء ويجعله مشدودا للرواية إلى آخر سطورها.

من خلال قصص أبطال الرواية: ليان وتيم وقصي وتماضر وشذى ومالك وحنان وادوارد وجودي وشيماء ومراد وهيام وغيرهم، ومدنهم: معاد وأدموت وأرواد وفيريلاند وأبورجين وغيرها، يطرح الكاتب أفكاره حول الفناء والخلود وتقاطع وتباين معانيهما. فهناك المشرد اللاجىء الساكن في المخيمات وهو في وطنه، يصنع خلوده رغم الموت المستمر وتآمر الفناء على مدينته الصامدة الشجاعة. وهناك من يسعى إلى معرفة حقيقة الوجود وان كلف ذلك فناءه الحيوي. ولا يخلو النص من ذلك الذي يفهم الخلود بمعانيه الدنيوية المادية المبهرة. وهؤلاء الذين باعوا قيمهم وانسانيتهم في سعيهم إلى تخليد وجودهم فيفنون ويفنى وجودهم. وهنالك الذين يصنعون خلودهم، خلود انسانيتهم، من الفناء. فكما هناك الخلود الخالد فهناك الخلود الفاني وكما ان هنالك الفناء الفاني هنالك أيضا الفناء الخالد. كل هذا ينطبق على الأفراد والمدن والأمم والمعايير، كل يكتب تراتيل خلوده وفنائه بطريقته.

الرواية تحاكي الكثير من الحقيقة وواقع النفس البشرية وأرجحتها بين القيم والمبادئ. والرواية أيضا تنقل أفكار الكاتب وهواجسه ووجهات نظره حول جوهر القضايا الوجودية والسلوك البشري والقيم الإنسانية والمواضيع التي تحكم الكون. فيطرح الكاتب رؤيته عن حرية الإختيار وكيف يتناول الإنسان أمر القرارات المصيرية التي قد تحفز ذلك الظلام الكامن في النفس البشرية. ويربط الكاتب مابين مبدأ الإرادة الحرة والقدر وكيف يتناول الإنسان أمر القرارات المصيرية التي قد تحفز ذلك الظلام الكامن في النفس البشرية. ويربط الكاتب مابين مبدأ الإرادة الحرة والقدر وكيف يلوذ العامة بتحميل القدر عواقب اختياراتهم. كما يتكلم التل عن الهزيمة الداخلية التي تعيق أي تحرر من المعتقدات السلبية سواء على الصعيد الشخصي أو العام، فالهزائم تسلب الثقة فمن أين يأتي نهوض أمم تنظر بدونية الى نفسها؟ ويحتل موضوع الخذلان مساحة من الرواية، وكذلك تعريف الموت ما إذا كان هو خروج الروح أم الحياة مع ألم الذكريات أم هو يكون في ذلك النسيان القاتل. لا نستطيع التكلم عن مواضيع العصر من غير التطرق الى العنصرية والتمييز العرقي فكان لهما تأمل جميل في نص الرواية.

سلط التل  الضوء على الإعلام كونه يمثل الرق الحديث، عالم من العبودية يمارسها سلاطين الفضائيات على المشاهد فتشكل أفكار المجتمع وتوجهاته. وليس هذا فقط، بل بات الإعلام صانعا للخبر وليس ناقلا له فأصبح أداة في تزوير الحقائق وتزييف التاريخ. وبالحديث عن الرق، فهو يطال كل ما يتمسك به الإنسان فيدمنه، فهناك رق الحب ورق الأصدقاء ورق الشهوات ورق العادات وهكذا. السلطة والفساد والمال والإعلام جميعهم يصبون في خانة واحدة تحكم المجتمع الحديث وتوجهه بما تريد.

يتكلم الكاتب عن علاقة الإنسان بالسلطة والعلاقة الطردية بين مرافقة السلاطين والقيم الرابطة والإنسان بعيدا عن إنسانية المبدا. وفي الحديث عن السلطة، وصف الكاتب صفات هؤلاء الأسياد والسلاطين وطرقهم في التحكم بالعامة التابعة.

كما تتطرق التل لموضوع الكتابة والنشر والتوزيع والذوق العام والحلقة المفرغة التي تربط بينهم والفرق بين الرواية والقصة وقدرة الكاتب على التأثير والإبداع الأدبي الذي يُبنى على قدرته على الإبتعاد عن كل ما يثير تفكير القارىء الذي يتجنب هو الآخر مواجهة الحقائق.

لا ينفك القارىء عن محاولة اسقاط أسماء مدن "تراتيل الخلود والفناء" على الدول الحالية لكن يحرص الكاتب على الا تكون المهمة سهلة!

هناك أرواد التي تختبر انسانية الأمة في كل لحظة فتناجي العالم وتقول: هل هناك من يعلم بحالنا؟ هل هناك من يهتم بأمرنا؟ هل هناك من يعتبرنا بشرا أصلا؟  يبرر قادة العالم صمتهم وتجاهلهم وتحالفهم على مآسيها بالتبرعات المالية من أجل إعادة إعمارها.

أما أدموت فهي تخلق اساطير عراقتها لتكتب لنفسها أمجادا وتستقطب لهذا الغرض جميع الخبرات. مدينة يكسوها اللون الأصفر المذهب وتحاكي مُستعمرتها فيرلاند في قيمها الإجتماعية. يحملها الناس ويعظمونها وهي لا تأبه بأي منهم فهم جميعا أدوات لمجدها.

أما فيرلاند فهي مدينة الأحلام والآمال التي تصبو إليها النفوس. مدينة الحريات المشوهة حيث يصبح فيها الفرد عبدا للنظام ومستهلكا للموارد ومبرمجا على أحلام فردية جشعة.

وما زال هنالك الكثير من المواضيع التي طرحت في هذه الرواية مثل الطاعة العمياء للسلاطين، وتقليد المنتصر وتعظيم أمره والتعامل مع المظهر والجوهر وصفات الجموع وأسطرة التزييف. يلاحظ انحياز الكاتب لدور المرأة والأم في العلاقة الزوجية والعائلية والإجتماعية فيصف الرجل في أكثر من فصل بالحاضر الغائب، يؤكد على أن المرأة هي صانعة القرار وهي المحرك الأساسي لأي دينامكية بين الأفراد.

سوف أستفرد فصل "رائحة الملائكة" بالذكر لعمق ما أثر في نفسي بوح مشاعر الأب الذي يتوق لملاقاة ابنته. كذلك دور مالك، أحد الأبطال، كان مميزا من حيث أضافته لبعد ومعنى لفعل الكتابة ودور الكاتب في صياغة الأحداث والتحكم بالمصائر.

ويبقى السؤال، هل شملت هذه المراجعة جميع المواضيع التي تطرق لها ليث التل في روايته هذه؟ الجواب قطعا لا! فالرواية مكتنزة بالكثير من الرسائل القيمة والمواضيع والآراء. أظن أنه لم يكن من الأمر اليسير كتابة رواية بهذا الكم من الأفكار المتدفقة والهموم المؤرقة بهدف التوعية ولفت النظر.

 إذا كان لدي مأخذ على الرواية فهو أنه طالها بعض من التطويل في الوصف والحوار وطرح القضايا. فيما عدا هذه النقطة الثانوية، هي رواية ذكية محملة بالهموم البشرية تناجي قارئها بتأمل أبعادها والبحث في عمق أفكارها. هي رواية فلسفية تثير التفكير والتأمل وتجذب كل من يحب الأسلوب المبتكر في طرح القضايا. أتطلع لقراءة أخرى للكاتب للتعرف على أسلوبه الأدبي