ابن بطوطة في شارع الجامعة الأردنية
أَصَّرَ المحروس ابني على أخذ سيارة والدته للنزول
للعقبة، فَضَحَّتْ والدته بسيارتها، وَضَحَّيْتُ أنا بسيارتي لأم طارق - كالعادة -
فَصَفّيت بدون سيارة، عادي شو عليه، مش أول مرة، المشكلة مش هون، المشكلة إني قررت
آخر النهار مقارفة رياضة المشي ورفضت كل عروض أم طارق لإعادتي للبيت معززا مكرما
بسيارتي.
دحشت اللاب توب وعدة الشغل ورواية يا صاحبي السجن
التي أقرؤها حاليا في الحقيبة، تلفحتها على كتفي، معلنا رحلة العودة إلى الديار من
الجبيهة إلى تلاع العلي مرورا بشارع الجامعة الأردنية مشيا على الأقدام.
استقبلني الشارع العام المُفْتَقد للرصيف والصَّاف
بجانبه باص مدرسة هجره أهله لسبب أو لآخر، فحشرني سائق بين سيارته وبين الباص وكاد
أن يفرمني لولا توقفي الكامل، لأكتشف أن هذا السائق الشاب شَغَّال واتس أب، ولم
تهتز فيه شعرة عندما رآني محشورا واستمر مسرعا، والأكيد أنه لم يعتذر ولو بابتسامة
أو حركة يد، الله يرحم أيام كان الصغير
يحترم الكبير.
كان منزلنا قبل ثلاثة عقود من الزمن يقبع في نهاية
طريق على رأس الجبل، وكعادة الهمل يلجؤون إلى النهايات المعتمة ليلا لممارسة الحب
وأشياء أخرى، وكنت كلما برزت لواحد منهم متلبسا بجرمه المشهود يُطأطئ رأسه معتذرا
قبل أن يولي الدبر، أما حاليا فإنك إن أبديت ملاحظة ما لشاب في الشارع، فما أسهل
أن يرفع صوته أو يده عليك، وتأتيك عشيرته فارعة دارعة، لا تنتهي مشكلتك معها إلا بمحكمة
أمن الدولة، فَتُؤثر التعامي حفظا لكرامتك واحتراما لنفسك.
يا فَتَّاح يا عليم ... دهس وفرم بداية رحلة العودة
إلى الوطن الأم في تلاع العلي، بسيطة، كذلك هي المسارات لا بد من عقبات البداية
حتى تميز العازم عن المتردد في المسير.
نقلت حقيبة اللاب توب من كتفي الشمال إلى اليمين
وأنا انتقل من المسرب المحاذي للجامعة إلى المسرب المقابل له مرورا بنفق المشاة،
ويا له من نفق ! مررت فوقه الآف المرات بالسيارة قبل أن اضطر للمرور تحته البارحة مكتشفا
أنه أشبه ما يكون بسوق الحرامية في سقف السيل، يا حسرة على أيام الجامعة في
الثمانينيات عندما كنا لا نعترف ولا نعرف الأنفاق، بل نعبر شارع الموت بكل جسارة
مخلفين وراءنا قتلى وشهداء ك(مروان عرندس) ومدهوسين.
دعوة خطرت ببالي وأنا أخرج من النفق إلى ظُلَمِ
السفور أمام ماكدونالدز، هل يُعقل أن هذا الذي أُشاهده اليوم، هو نفس المنظر الذي
أشاهده كل يوم وأنا في السيارة، وكأن زجاج السيارة يعزل الإنسان عن مشاهدة الواقع،
كما تفعل الحكومات وتتخذ قراراتها من برج عاجي لا يمت إلى الواقع بصلة، دعوة
اسميتها (أختي المحجبة اخلعي الخرقة عن رأسك ولفي بها جسدك فهو أستر وأعذر لكِ عند
ربك). نتيجة طبيعية لفتاوى نص الكم، والتي أصبحت - بواقع الحال - قنطرة للإنتقال
من الحجاب الكامل إلى السفور ، وليس العكس كما حسبها شيوخ مجاراة الواقع.
أثقل اللاب
توب كتفي وأنا أمر أمام كلية الزراعة مدركا السبب الكامن وراء تدلي الكرش،
فمعاقرتي للشوكلاته لم تختلف عن أيام الجامعة، إلا أننا كنا أيامها نحرث الجامعة
حرثا ونحن ننتقل من كلية الشريعة شمالا إلى كلية الهندسة جنوبا عدة مرات باليوم
الواحد، ننقل الرسائل الحركية ونوزع البيانات والممنوعات، ونعتل الكتب المصورة
والدوسيات من المكتبات أمام الزراعة إلى المختبرات في الهندسة ... كان عملا
روتنيا، أما اليوم فهو بمثابة رحلة ابن بطوطة ... هي الأعمار تمر، وهي الأيام دول، وهي
الأعمال تُكتب، وهي الكروش تتدلى ... وما ربك بغافل عما تعملون.
كم هو جميل منظر جسر الجامعة العتيد الشامخ كمعلم
من معالم عمان، كلما مررتُ من تحته
بالسيارة ورأيت الناس ينتظرون المواصلات العامة تُقلهم إلى أعمالهم صباحا،
تمنيت لو كنت مثلهم مواطنا عاديا ليس له من هموم الدنيا إلا عائلته وأهله يسد
رمقهم آخر النهار، ثم تعود بي الذكرى يوم كان باص المؤسسة الأحمر هو وسيلة تنقلنا
الوحيدة ولم نكن نمتلك من حطام الدنيا حينها غير رسالة ودعوة وسبعة قروش ونصف أجرة
الباص (سؤال عابر : هل لا زال الشباب في المواصلات العامة يُخلون مقاعدهم لكبار
السن والصبايا والصغار ؟! لست أدري ولا أظن).
لم يستقبلني عبق التاريخ ولا عمق الجغرافيا وأنا
أتقدم نحو الجسر بكل هيبة وإجلال، بل هي روائح كريهة وذباب مقيت من مخلفات حوائج
الناس التي يقضونها تحت الجسر في عتمة الليل أو ربما في وضح النهار، أين أمانة
عمان التي استنزفت موارد التجار والمواطنين برسوم النفايات والنظافة ، لا بد أنها
منشغلة بمشروع الباص السريع، الذي يمكنني على الأقل التنعم بأشجاره المعمرة وظلها الوارف فيما بقي لي من
طريق إلى هدفي.
ملتقطا صفحات من جريدة الدستور ملقاة على الشارع
أمام مقر الجريدة ذاتها - يبدو أن المثل العربي (زُمَّمار الحي لا يُطرب) صحيح، فكم من مبدع حاله بين أهله كحال تلكم الصفحات
- واضعا إياها على السور مخافة أن تحتوي على أسماء الله فيدوسها المارة.
مُنشدا
درب
الهـــــــدى دربي وهبتـــــــــــــــه قلبي
أفــــــــــــــــــردته دوماً بالشــــــــــوق والحب
أفــــــــــــــــــردته دوماً بالشــــــــــوق والحب
درب
الهــــــــــــدى دنيا تمور في صـــــــدري
تضم للفـــــــــــــــــــــن عجـــــــــــــائب الفكر
تضم للفـــــــــــــــــــــن عجـــــــــــــائب الفكر
........
.......
بدأت أصعب مراحل العودة بالصعود الحاد، فوصول الهدف
أصعب ما يكون في النهايات.
وأخيرا ... وصلت باب البيت بعد ساعة وخمس دقائق،
ناجيا من الفرم، متلوثا بمناظر السفور، مُزكم الأنف من روائح الطريق، منقطع النفس
من الصعود، منتفخ الأقدام من المشي، مُنتشيا بالإنجاز، لأجد إبني المتبرطع على
شواطئ العقبة المتنعم بأكل ما لذ وطاب من أسماكها، حيث الماء والخضراء والوجه
الحسن، وقد كتب لنا لوحة على باب البيت يقول فيها
(بابا، ماما، إخواني ... أحبكم جميعا)
حبك برص
تعال شوف شو صار معي بشارع الجامعة
11/11/2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق