خاطرة كتبتها إلى زوجتي لمّا سُجنت في فرع فلسطين في دمشق قبل
أكثر من عشرين سنة
مهجع رقم (3) تحت الأرض
هم في سجون الأعداء يعاينون الأهوال يا لبنى، خمسون شخصا
مكدّسون في غرفة أبعادها أربعة أمتار بأربعة أمتار فقط، يأكلون وينامون ويتغوّطون،
ثلاثة أرباعهم ينام كَما تُعلّب الأسماك في علب السردين، بما اصطلح على تسميته ب
"التسييف"، رأسك ملتصق بِأرجل جارِك، ولا يفصل عورتك عن عورته إلّا قماش
ملابسك المنتنة ، والربعُ الباقي يسهر إمّا في الحمّامِ أو فوق الرؤوس النائمة أو
عند بوّابة المهجع السوداء، فَلا مكان هناك للنوم ولا للآدمية، فالحيوانات في
زرائبها أعزّ وأكرم من البشر في سجون الأسد الصغير، وفي النهار تختلط أعضاؤك
وأطرافك مع الأخرين، فَلا خصوصية هنا ولا ما يحزنون، حتّى الفراغ بين أعلى فخذيك
وأسفل عورتك مشاع، تجد فيه رأسا أو يدا أو قدما لا تعرف لِمن تعود، ولا تملك فعل
شيء، فَأنت تنعم بِإشتراكية البعث المجيد.
حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله على من وضع يده بيد طغاة
دمشق من أجل مصلحة عليا مُتوهمة لشعبه، على بعد عدة كيلومترات، يتداعى جسده بالسهر
والحمى في فنادق دمشق على ما أصاب إخوانه المفترضين في فرع فلسطين !!
صمت قبور رهيب يا حبيبتي، لا تسمع إلّا همسا، الكل يُنصت،
فَصوت تعذيب أحدهم يصل إلى مسامعنا، يُمزّق سكون الرعب، قشعريرة تسري في الأبدان
كأنّها الموت الزؤام، جُنَّ أحدهم بعد التعذيب عندما علم أنّ ابنته في مهجع النساء
طُلبت للتحقيق، فَظنّ أنّها سُتعذب مثله، وخرجنا من سجننا القصير قبل أن يعود إليه
عقله الذي ذهب أدراج الرياح مع بُنيّته الصغيرة.
شَخَصَت الأبصار،
فقد فُتحت بوّابة
المهجع السوداء،
أزيز حديد صدئ،
وخراف تنتظر الذبح، كَخراف الأضحى تساق إلى حتفها،
لِمن العيد اليوم،
لِمن العيد اليوم،
قرابين على مذبح
السلام، ووسطية الانهزام،
قادتنا، ساستنا، أحبارنا، شيوخنا، رهباننا، أحفاد بلعام بن
باعوراء، بل آباءه وأجداده، أعدّوا أجوبتكم ليوم النبأ
(لِكُلِّ نَبَإٍ
مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)
وسوف تعلمون.
متى نصرك ياربّ؟ متى نصرك ياربّ؟ لقد عتى طغاة الشام عُتوّا
كبيرا، مُلئت السجون بالأبرار يا ربّ، ألم تغضب لعبادك يا ربّ؟ ألم تغضب؟ إنَّا
نجأر إليك، نتوسل إليك، ارحم أهل الشام ارحم إخواننا وأخواتنا، نرجوك نرجوك، ارحم
ضعفنا، وارحم ذلنا، وارحم قدسنا، يا أرحم الراحمين، يا منتقم يا جبار، الأمر إليك
من قبل ومن بعد، نصرك الذي وعدت، نصرك الذي وعدت.
صوت أذان الفجر، الله أكبر... الله أكبر... لا إله إلّا
الله...
يُرفع في أقبية السجون، رغم أنف جيفة القرداحة الأسد الكبير
في قبره ... ورغم أنف الأسد الصغير في قصره، فَبَعد إضرابات السجون، التي سالت
فيها دماء طاهرة، وزأرت فيها أُسود ضارية، تغيّرت الأحوال، فالأذان يُرفع بِصوت
عالٍ يسمعه الخنزير الزنيم مدير السجن، والصلاة تقام جماعة داخل كلّ مهجع، ومصحف
بِيَد كلّ سجين، وأنا مُؤرَّقٌ جَفني، أرنو إلى الأفق البعيد، فَرغم قيدي، أنا حرّ
بِروحي، أسيح في ملكوت الله، أرتّل آيات الأنفال، وأنتظر اليوم الذي تسجد فيه جبهتي،
عند نهاية الطريق
في القدس الشريف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق