الأربعاء، 8 نوفمبر 2017

حوار مع حيط





ليس من السهل مقابلتهُ، فَمُحَيَّاهُ مُرهب، وَطَلَّتهُ لم تكن يوما من الأيام بهيَّة، هو من ذاك النوع الذي يَسُدّ النفسَ مَرْآهُ، إن وقفتَ أمامه يتبادر لذهنك السؤال الأبدي "هل ما فعلتُهُ يستحق عناء مرافقة هذا الحيط ؟".
رفيق يلازمك لا فكاك عنه، يحيطُ بكَ من جهاتك الأربع، يُرتِّل على مسامعك سؤال الجغرافيا الكريه، ماذا يحدك ؟  يُجيبُكَ قبل أن تنبس ببنت شفة : يَحدُّ حضرتكَ من الشمال حيط، ومن الجنوب حيط، ومن الشرق حيط، ومن الغرب الحيط، ومن أسفل منك حيط، ومن فوقك حيط.
كانت دروس الجغرافيا ومعها التاريخ أيام المدرسة من أمقت المقررات لديَّ، خاصة إن لازمها درسٌ وامتحان، ثم ما لَبِثتْ أن أصبحت ممتعة عندما اقترفتُها رغبة ومطالعة، أما بين الأربعة حيطان فإن التاريخ والجغرافيا ومعهما الدين يُصبحون تحدياً ومعركة، وأنت بينهما على المحك.
لم يستمر أكثر من 24 ساعة ذاك اللقاء الأول عام 1994 الذي تَشرَّفتُ به أو تَشرَّفَ هو بي ، يوم حُشرتُ مع مجموعة من قيادات الحركة الإسلامية بسبب المشاركة في مسيرة منددة بمعاهدة الصلح مع اسرائيل في زنزانة مخفر جبل الحسين الجماعية بين أربعة حيطان، كان الجمع غفير والمساحة شاسعة يحتاج فيها الطْرْفُ السارحُ إلى فترة قبل أن يصطدم بحضرته حيطا قابعا في آخرها، ومع أن أحداث ذاك اليوم مرت بسرعة، ولم تسنح لي فرصة كافية للحوار مع حيطان الزنزانة، إلا ان اللقاء كان صعبا لأنه كان اللقاء الأول، وكما يقال فإن الحب الأول هو أصعب أنواع الحب.
أما في الثانية بعد عدة سنوات ولسبب مشابه - هل تستحق معاهدة وادي عربة كل هذا ؟! -  فقد نَقَصَ بعضُ الجمع وتقلصت معه المساحة واقتَرَبتْ فيه الحيطان، علاقة طردية عجيبة بين عدد السائرين ومساحة الزنزانة، خاصة إن أصبحت إنفرادية، كما هي عكسية بشدة أيضا مع الوقت، فمروره السريع وعدم توقفه، ترك كثيرا من الجمع إما على رصيف الفضائيات أو على أعتاب الدَّرَكات، آخذا معه بقية الأولين إلى مساحات أصغر فأصغر.
يُقال أن الزواج من الثانية صعبٌ جدا، لكنه إن تم ... فإن المسبحة بعده تفرط (وإذا مش مصدقين اسألوا جدي "علي نيازي" فقد تزوج من تسعة)، وكذلك الحوار مع الحيطان فبعد المرة الثانية تفرط المسبحة، فينتهي بك المطاف تكرارا وجه لوجه أمام الأربعة مجتمعين، تعددت أسباب الجلب والمواجهة واحدة، كل حائط يريدك لنفسه، مستحوذا عليك يحطمك، يقترب منك في كل مرة أكثر فأكثر، مغلقا أمامك أي أفق منظور، ماسحا فيك كل أمل فسيح.
لكن الله يأبى ... لأنها لو كانت تساوي عنده جناح بعوضة ما سقى منها كافر شربة ماء ولجعلها لعباده الصالحين ، ولأنه رب النفس ورب الجسد، ولأنه الرحمن الرحيم، فإنه لا يجمع على المؤمن ضيقين، فإن حُبس الجسد ساحت النفس في الملكوت، وإن اجتمع الملأ عليه يحرقونه فإن البرد والسلام يَتَنزَّلان، وإن ضاق الكهف بأهله رُتِّلَتْ الأنفال ... فَفُتحت المدائن.
تساءل أحدهم ... أين هي تلكم الجدران ؟ هل أغنت عن أحد ؟ وهل يا ترى منعت ضياء ؟ أم تراها حجبت شموس ؟
وكتب آخر ... لعل حلما جميلا يساورك في ليلة من ليالي شهرزاد، فإن حَدَّثتَ فيه نفسكَ بالتعدد كالرجال، فهي كلمة سواء وطعنة نجلاء اضرب بها عرض الحائط وقل له "إني لا أراك" ... يحدني من جهاتي الأربع سماء ولا غير السماء، وفوق السماء ربها لا رب سواه، ودعكَ من الأعتاب والأرصفة وإن تداعى عليها جمع، وتزاحمت عندها أقدام، وارنُ إلى السماء ولو كنت وحدك وضاقت عليك جدران.
فليس الزَبَدُ وإن كثر بمُنْتَهَى ...
بل هو الماء العذب الزُلال ... وحوض نبينا صلى الله عليه وسلم القائل
"عُرِضَتْ عَلَىَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلاَنِ ، وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّهْطُ ، وَالنَّبِىُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ... "
لا تخبروا أحدا بالمقال فالحيطان لها آذان
8/11/2017



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق