أصل الحكاية
من البراميل المتفجرة إلى الصواريخ الموجهة
ليث التل 28/9/2024
إن الكاتب إذ يكتب فإنما يعرض عقله على الناس ويجعله مشاعا للأصدقاء ولمن هبّ ودبّ من الأعداء يرفعونه أو يخفضونه حسب معتقداتهم وحسب ما تمليه عليهم مواقفهم، أحسنهم حالا من توقف عند الحق وأنصف وهم قليل من قليل والله المستعان.
إن تتداعي الأحداث في المنطقة بهذا التواتر يصطدم مع ما ألفه الناس من قصص وحكايا تم غرسها في عقول ووجدان العوام والرعاع عوضا عن الخاصة والمفكرين من قبل جواري السلاطين (الإعلام). إلا إن قلة من الناس انحازت منذ اللحظة الأولى إلى معايير شرعية مضبوطة حاكمت الأحداث من خلالها كما أعملت عقولها وفكرها في النظر في السنن والقوانين التي تحكم حركة الناس وتضبط اجتماعهم بعيدا عن النظرة الرغائبيّة التي يخدرون فيها أنفسهم، فحفظت هذه الفئة نفسها وحفظت من حولها.
وفي ظل هذا الهجوم والسعار (الص هي وني) الخطير وتمدده وتوسعه الأخطر؛ فإننا بأمس الحاجة إلى وضع التصورات وما يتبعها من خطط لمواجهة هذا الخطر الداهم، وكما هو معلوم من الدين بالضرورة فإن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، وما سبب الهزيمة إلا تقصير نخبة الأمة في البحث عن هذا السبيل وهو للأسف ممتنع وزاد حجابه حالة الهياج العاطفي الصادق والطاغي لما حصل مع أهلنا في غزة.
إن هدف هذا المقال تبيان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الحال من الهزائم المتتالية وليس هدفه وضع التصور المستقبلي للحل رغم وضوحه وهو مختصر تحت عنوان "وحدة إسلامية شاملة تسير تحت شعار (لا إله إلا الله محمد رسول الله) توالي عليه وتعادي عليه".
إن الخلل في مفهوم وحدة الأمة الإسلامية والذي هو من مخلفات سايكس وبيكو أدى بنا إلى ولاءات متعددة أذهبت ريحنا وضيعت ديننا فأصبح كل طرف يُسَخّر الدين لصالحه فأصبح الدين خادما تابعا لا سيدا متبوعا وكان المشروع الإيراني هو أحد أهم تجليات هذا الخلل، فمنذ الغزو الأمريكي للعراق وتحالف إيران معه ودخول أتباعها في العراق إلى بغداد على الدبابة الأمريكية كما تحالفوا معها من قبل إبان حرب أفغانستان ثم تمدد نفوذها إلى سوريا والتوافقات التي تمت بينها وبين أمريكا على تقاسم النفوذ الأمر الذي وافقه تعدد ولاءات المسلمين حسب كل بلد فمنهم من يقف مع إيران هنا ومنهم من يقف ضدها هناك، وما رافق ذلك من هجمة عقائدية عسكرية على كل ما يمت للمسلمين (السنة) بصلة، مما سبب حالة غضب ورفض عارمة بين الشعوب -لا الدول والأحزاب التي دارت حيث دارت مصالحها الضيقة- الشعوب التي توحدت ضد هذا الإجرام غير المسبوق الذي استجَرّ تاريخا من الأحقاد والانحرافات التي لم تشهد لها العقول السليمة والرسالات السماوية نظيرا.
أصبح المشروع الإيراني حينها والذي دخل في تحالف مع الغرب وأمريكا تحديدا هو البيدق الذي تستخدمه أمريكا لوأد أي أمل لنهوض المسلمين في العراق وسوريا خاصة وفي كافة الأمة عامة وأصبح الشيعة الذين تم استقدامهم من أفغانستان وباكستان وإيران ولبنان والعراق هم مادة أمريكا في تحقيق أهدافها التي التقت مع طموحات إيرانية فارسية قديمة، لكن هذا الإجرام والقتل أدى إلى ردة فعل شعبوية إسلامية عارمة قزّمت المشروع وأغلقت الأبواب أمام تمدده العقائدي والشعبي في جسم الأمة الإسلامية، فجددت إيران حينها الدهاء الذي تميزت به عبر العقود الماضية فكانت دائما المستفيد الأكبر وربما الوحيد في كل الحروب الماضية باستثناء حرب الثمان سنوات مع صدام حسين الذي أعاد طموح الخميني إلى حجره الضيق، مارست الدهاء بأن تعلقت ودعمت وتطهّرت بالقضية التي اجتمعت عليها قلوب المسلمين (قضية فلسطين)، وعادت إلى من كانت تعقد معها صفقات تبادل الديون
والأسلحة (إسرائيل) إبان ثورة الخميني، فأعلنتها العدو الأكبر وجددت شعارها القديم (الشيطان الأكبر) و(الموت لأمريكا) و(الموت لإسرائيل) فضرب عصفورين بحجر واحد دعم فلسطين والعداء لإسرائيل وكسب القلوب.
سمحت أمريكا لحلف إيران الذي بدأ بالتشكل بأن يعلن ما يريد من شعارات ضده وضد إسرائيل وسمحت بهامش من العداء العسكري مع الكيان المغتصب على أن يبقى ضمن الحدود التي تحقق لهما أهدافهما والذي كان يلزمه القبول الشعبي من الأمة الإسلامية وقامت قناة الجزيرة بالدور الأكبر بالترويج لهذا لمشروع وأدخلته إلى بيوت وقلوب المسلمين.
هذه العلاقة المصلحية والتي رافقها الإفراج عن الأموال الإيرانية المحجوزة إبان حكم بايدن، ورفع الكثير من العقوبات الدولية على إيران، والتوسع في إنتاج النفط وبيعه، رفع إيران إلى مستوى غير مسبوق كلاعب رئيسي في المنطقة وبدأ تحالفها تدريجيا يتحول إلى صراع نفوذ مع أمريكا وإسرائيل لكنه لم يصل قط إلى صراع وجود.
غرّ إيران هذا الحال الذي وصلت إليه في ظل نظام عربي ضعيف ومتهلل يسعى بعضه إلى تحالف مصلحي مع إسرائيل وفي ظل غياب رئيسي لأهم معيار من معايير النصر (المسلمون تتكافأ دماؤهم) فاستغنت؛ ظنا منها أنها أصبحت قوة دولية تناطح الدول العظمى وتناست أنها دخلت بغداد على الدبابة الأمريكية، ولم يكن لها ذلك أيام صدام حسين رغم حربها الطويلة معه يوم غاب عنها الغطاء الأمريكي، ولم يكن لها ذلك أيضا يوم نهض المسلمون في العراق وسوريا يحاربونها ويقاومونها ويقاومون الاحتلال الأمريكي لولا الحرب الجوية التي ساندت الحلف الإيراني من حلفائها المُعلنين (روسيا) وحلفائها المخفيين (أمريكا).
انتصرت إيران في العراق وفي سوريا وظن أتباعها أنهم قادة الفتح المبين ونسوا أنهم كانوا يهربون من المعسكرات بملابسهم الداخلية أمام المقاتلين من أهل السنة ولولا المساندة الأمريكية لما نالوا ما نالوا، أدى هذا الشعور العارم بالانتصار إلى تفلت الفصائل الشيعية في العراق على الوجود الأمريكي فأرسل إليهم ترامب إبان حكمه رسالة واضحة بأنْ قتل الرجل الثاني في إيراني المجرم قاسم سليماني، قاسم سليماني الذي كان الوجه الثاني لاختراق أهل السنة تحت عنوان (مناصرة فلسطين) وانشقت الأمة بين من اعتبره (شهيد القدس) وبين من اعتبره (هولاكو العصر).
لم تكن رسالة ترامب كافية إذ أدت نشوة النصر وغرور القوة وتعدد أذرع إيران في المنطقة وانضمام بعض أهل السنة إليها إلى تبلور (حلف المقاومة) بشكل أوضح، والذي كان في حقيقته أصغر بكثير مما صوره إعلام الحلف ومما اعتقده قادة الحلف الذين طمعوا بمزيد من التمدد.
التمدد الذي كانت تسكت عنه إسرائيل سابقا لنفس أهداف أمريكا السابقة ، وظن البعض أن معركة تحرير فلسطين أصبحت قاب قوسين أو أدنى تحت شعار وحدة الساحات وتغافلت الشعوب المسلمة أن صراع إيران مع أمريكا هو صراع نفوذ وتقاسم كعكة وليس صراع وجود وبان ذلك واضحا في تصريحات قادة إيران باعتبار معركة التحرير التي أسموها (حرب إقليمية) هي خديعة إسرائيلية ولن ينجروا إليها ... فذاب الثلج وبان المرج.
تصاعدات الأحداث بعد 7 أكتوبر ووصلت إلى المرحلة التي تمرد فيها الطفل المدلل نتنياهو على أسياده واستمر الدفع باتجاه معركة مع حزب الله ومع إيران، ولمّا اقترب من هذا الهدف استيقظت إيران على أنها ليست تلك القوة العظمة التي تستطيع الوقوف أمام أمريكا وإسرائيل عسكريا، فاستعاضت عن ذلك بأن ضمنت لنفسها مقعدا على طاولة الكبار في المنطقة.
كانت غزة هي الضحية الأولى التي ضحت بها إيران على مذبح مصالحها ومشروعها الطائفي الفارسي المجرم ثم تبعتها لبنان نسأل الله لهما السلامة من المكر الكُبّار الذي يحيق بهما. وانتقل المشهد من البراميل المتفجرة (الغبية) التي كان الحلف الإيراني يسرح ويمرح في إلقائها على رؤوس المسلمين بموافقة الحلف الأمريكي إلى الصواريخ الموجهة (الذكية) التي أخذت تصطاد قادة الحلف الإيراني بموافقة الحليف الأمريكي لتعيده إلى حجمه الطبيعي وتذكره أنه مجرد مطيّة وأداة بيد الغرب ضد المسلمين.
إن الحل الذي يجب دراسته من قبل علماء الأمة ونخبها الذين لا يخشون في الله لومة لائم ولا ينجرون وراء العواطف والشعارات يجب أن يعتمد على المعيار الأول للنصر (المسلمون تتكافأ دماؤهم) وأن لا فرق بين السوري والفلسطيني ولا فرق بين الأردني والعراقي، وما معالجة بعض الدعاة للمشكلة على أنها مشكلة شماتة أو مشكلة بين السوريين والفلسطينيين إلا سببا للهزيمة، فقد أصاب هؤلاء الدعاة لوثة إرضاء كل الأطراف حرصا على لملمة الجماهير، فآن الأوان للأمة الاستيقاظ ووضع الحد للمشروع الصهيوني والمشروع الإيراني.
ووجب على الأمة أن تنفض يديها عن الأحزاب والجماعات والأشخاص والدعاة والدول التي أثبتت في كل مرة أنها لا تعقل، لأن قابل الأيام تحمل في طياتها الأهوال فما حدث في غزة وما يحدث في لبنان عيّنة لما سيحصل نسأل الله العفو والعافية
وكتبه نصحا للمسلمين وحبا لفلسطين وشفقة على لبنان
ليث التل
28/9/2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق