لم يغمض جفني بعد وهدير نفسي التواقة إلى باريها أقض مضجعي فربما كلماتي جارحة لكن أحسب فيها حبا ورحمة

الاثنين، 11 ديسمبر 2017

الحِمل الزائد


الحِمل الزائد



مُنتهى أملي، ومُنية نفسي، رَمَقْتُهُ من بعيد، ليس إليه من سبيل، لم تصله يدايَ "كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ" كذلك هي المعالي، وإن شئت - للدقة - قلتَ السَّفاسف ...
 رِباط الحذاء،
شأن كل الناصحين (من النصاحة أي السمنة وليس من النُصح) في أغلب أمورهم اليومية، يبتغون المعالي بتحسين صحتهم بالحمية الغذائية المستحيلة، من أجل القيام بسفاسف  المستحيلات السبعة كربط الحذاء، وأنى لهم ذلك، فاختصارا للمشاكل قررت من يومها شراء أحذية بدون رباط.
كل الناصحين فاهمين عليّ، فمثلا إذا رأى أحد منهم ميزانا، تكهرب وجهه وتجهم ثم وَلَّى مدبرا لا يلوي على شيء، وإذا ما اضطر لاستخدام الميزان بناء على إلحاح الطبيب مثلا، فإنه يقوم بكافة إجراءات برتوكولات الناصحين، من خلع للملابس، وعدم شرب الماء ذلك اليوم، وشرب زهورات من أجل تلين المعدة لتخفيف الحمولة، إلى آخره من سُبل خداع النفس، حتى يخسر عدة كيلوغرامات يَكسر بها عين الدكتور أو عين زوجته المُتربصة.
من قال أن المشكلة في الشوكلاتة والمناسف، بل هي في الجينات الموروثة، فهي التي تسبب النصاحة، والدليل أن هناك من يأكل ضعف ما نأكل ويبقى معصمصا (نحيفا)، ويحافظ على قياس واحد لبناطيله من يوم تخرجه من الجامعة إلى أن يصل قبره مرورا بزواجه، وعلى سيرة الزواج وبناء على بروتوكولات حكماء آل العقاد الواردة في مقالي السابق (عجل صويلح المقدس)، فإن أم طارق ألزمتني منذ الزواج على تفصيل بناطيلي عند الخياط الدمث الأديب سلامة صرصور الكائن محله وسط البلد، لأنه الخياط الوحيد المعتمد عندهم، ولكن أم الأثافي ليست هي خضوعي لكافة الجهات المعتمدة لدى آل العقاد في تسيير أمور حياتي، فأنا رجل مطيع، إنما المشكلة أني لخبطت كيان الخياط، فالرجل عنده دفتر يدون فيه قياسات الزبائن الثابتة عبر السنوات، باستثناء صفحتي، فهي مليئة بالخربشة والشخبطة لكثرة تغيير القياسات، ألم أقل لكم أن المشكلة في الجينات.
حلا للمشكلة قمت بعملية إعادة هيكلة وتطوير إداري لخزانة الملابس، فبدل التوسيع والتضيق للبناطيل، اعتمدت خمسة قياسات لكل قياس خمسة بناطيل، قياس الرشاقة ونادرا ما يُستخدم، قياس البشر العاديين، قياس النصاحة، قياس ما بعد النصاحة، قياس الدب، وتم لاحقا إضافة الدشاديش والأثواب للحالات الطارئة، وهي التي يَستخدمُ فيها الإنسان (كرشه) كطربيزة لفنجان القهوة.
تجربتي مع الحمية الغذائية (الرجيم) تجربة فريدة، نجحت فيها مرات وفشلت مرات، مربط الفرس فيها الإرادة القوية، ثم تأتي بعد ذلك التفاصيل، فلا بد للإنسان كما لا بد للمجتمعات والحركات والأحزاب التخلص من الحمل الزائد، فهو يُعيق المسير ويُتعب الصحة، وكم هو رائع شعورك بالتحرر من هذه العوالق، فتربط حذاءك بسهولة، وتصعد الدرج برشاقة، ويصفو ذهنك بنقاء، وتفكر بحرية أرحب.
رغم إصراري أن المشكلة في الجينات، إلا أننا لم نكن أيام النصاحة - على المستوى الفردي - نلتفت لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه " ، كما لم نكن أيام النصاحة - على المستوى الجماعي - نلتفت لفعل طالوت وسياسته المُخلدة في القرآن في قوله تعالى " فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ " فقد تعمد طالوت تقليل العدد، وخفف من حمله الزائد، فَعَبَرَ النهر لملاقاة جيش جالوت العظيم بثلاثمائة رجل، لم يشربوا من نهر الهوى والخلاف، ولم يثملوا من الصراع على السلطة، كانوا على قلب رجل واحد يسعون لهدف نبيل واضح، "فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ "، بخلاف سياسة كثير من الحركات والأحزاب الإسلامية التي تعتمد بشكل كبير على التجميع، بغض النظر عن النوعية، فحوت في صفوفها أفرادا من أقصى اليمين حتى أقصى اليسار، فتكون محصلة القوى إذا تعاكست صفرا حسب نيوتن، وذاك ذهاب الريح، أو تكون النتائج مريعة لكثرة التضارب في الأهداف والوسائل، وكانت حركة الإخوان رائدة في ذلك بين الحركات الإسلامية كما هي فتح رائدة بذلك بين الحركات الفلسطينية.
"أضحت حركة الإخوان في الحركات الإسلامية كحركة فتح في الحركات الفلسطينية لا لون ولا طعم لا رائحة" مقولة أظن أني سمعتها قبل عقدين من الزمان من الفاضل إبراهيم العسعس حسب ذاكرتي، وليصححني إن أخطأت، ربما بالغ في الوصف وربما كان دقيقا، لكن الحقيقة أنهما يدوران في حلقة مفرغة، كل فرد فيهما يُغَنِّي على ليلاه، فيقع الخلاف ويحدث التضارب الذي تكون نتيجته الانشقاقات المتتالية، كما حدث مع فتح سابقا وخرجت منها تنظيمات لم تختلف مع حركتها الأم إلا باختلاف ولاءاتها الإقليمية كفتح الانتفاضة، وكما يحدث حاليا مع حركة الإخوان في الأردن، إذ انشق عنها بغطاء حكومي من سرق اسمها وتاريخها دون أي إضافة فكرية تُذكر غير ولاءات إقليمية ضيقة، وترخيص رسمي.
إن هوس التجميع والأكثرية دمر البنية الفكرية الصلبة للحركات السياسية، فضاعت بوصلتها، فرفضتها أو بدأت ترفضها الجماهير، والتي كان السعي خلفها سبب هذه الميوعة الفكرية والتنظيمية، ولو حافظت هذه الحركات على بنية فكرية متماسكة لأمكنها تحقيق أهدافها، فتتبعها الجماهير لاحقا، كنتيجة لتماسكها لا كسبب.
ورغم أني كنت في يوم من الأيام من هذه الحركات، التي كانت ربما تنام أحيانا ولا تستيقظ إلا على صياح الانتخابات، ورغم أني مجدت الأكثرية يوما، و سعيت لكثرة الأصوات في يوم آخر، وحصلت على أعلاها في انتخابات العمل الطلابي والنقابي، إلا أني اكتشفت أننا أصبحنا ندور في حلقة مفرغة، يوم بحثنا عن الجماهير ولم تبحث هي عنا، فقررت التخلص من هذا الحمل الزائد، فتحررت من عبودية الجماهير ونفاق الرعاع والعامة، وسعيت لوضع ذلك التحرر في جسم سليم، فتخلصت من حِمل كرشي الزائد بممارسة الرياضة اليومية، فغدوت رشيق الجسد حر التفكير بفضل الله وحده.
ثم
أعدت هيكلة مكتبتي وانتقيت كُتبي كما ألغيت التطوير الإداري في خزانة ملابسي ولم يعد عندي إلا قياس واحد
قياس البشر العاديين ... " الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ"
أسأل الله أن أكوان وإياكم منهم
11/12/2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق