لم يغمض جفني بعد وهدير نفسي التواقة إلى باريها أقض مضجعي فربما كلماتي جارحة لكن أحسب فيها حبا ورحمة

الجمعة، 19 يناير 2018

كل أصفر فيه أزعر


بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
(كل أصفر فيه أزعر)



أصابعه المرتعشة ربما تسعفه في هذا السن المُتأخر على قيادة سيارة التكسي، وربما تساعده على تدبر أموره الشخصية، والأكيد أنه استطاع بها مداعبة شعر بُنيته الصغيرة، آخر العنقود بعد تزويج ثلاث قبلها، وأربعة أولاد دَرَّسَ بعضهم ومنهم من ينتظر، لكنها لم ولن تسعفه كما قدراته الذهنية؛ في استخدام تطبيقات التكسي الذكي، التي لا زال ابنه الأصغر يُعلمه عليها مذ ظللت أوبر وكريم بكرمهما عِلْيَة القوم، فأمطرتهم بثروة جديدة، تضيف رقما جديدا إلى الملايين التي لم تعرف طريقها إلى رعاع الناس وعامتهم قط.
كان يُصانع أهله أنه أتقن استخدام التطبيق المتجدد، مُطمئنا إياهم بمواكبته لسنة الحياة في تطورها وتبدلها؛ وأنه لا زال قادرا على توفير حياة كريمة، في حدها الأدنى كالأيام الخوالي، ولكن قلقهم عليه وتفتيشهم وراءه، كشف كذبته البيضاء، بعد أن ذهبت طلباتهم إياه عبر التطبيق الذكي إلى غياهب النسيان، ولم تقنعهم تسويغاته بانتهاء شحن الخلوي أو ضعف شبكة الاتصال.
تذكر أباه الذي حلَّت به الأيام مكانه، مبررا لنفسه؛ مضيفا إلى ترسانة مصطلحاته التي يُنَظِّرُ بها على ركابه، حكمة جديدة : (اللي قبع قبع واللي ربع ربع) وأنه (ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع)، سنة الله في خلقه.
كان يُدرك سُّنَّةَ تبدل الحياة وغدرها منذ نعومة أظفاره، يوم رأى عجز محراث أبيه أمام تقدم التركتور الباهر، وصمم حينها -كما الأبناء دوما -  مواكبة الحياة والتطور بخلاف أبيه. تلكم الحياة التي لا زالت بتسارعها تخذل الأجيال جيلا بعد جيل، تستمر ويفنون، تتكابر ويتصاغرون، صارخة في وجوههم أنهم ما أُوتوا من العلم إلا قليلا، وأن الله سيجعل لهم من بعض قوتهم ضعفا وشيبة.
ما أن يركب سيارته بعيدا عن أعين أبنائه، حتى يُلقى الهاتف النقال جانبا كأنه رجس، ويمارس ما اعتاد عليه أربعة عقود مضت، يلتقط الزبائن عن قارعة الطريق، يجدهم أحيانا، ويفقدهم أحايين، يركب معه العاقل والمجنون، ويُقل بسيارته الطيب والخبيث، ويغض البصر عن العفيفة والسافرة، فكان أعلم الناس بالناس، لكثرة ما خبر من طباعهم وعلم من أحوالهم، فما سائق التكسي إلا مرآة أنفسهم ، فمنهم الحسن ومنهم القبيح.
مضت الأيام وارتعشت الشفاه، فما عاد يفيض بها على الركاب من حِكَمِهِ، فعلق بما أرتعش من أصابعه على زجاج سيارته الصفراء معزوفته الآخيرة، قول الحبيب صلى الله عليه وسلم :
"قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ، فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ"
19/1/2018





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق