اللهم لك الحمد في الأولى والآخرة، أنت الغني
عن عبادك، لا تُريد بهم إلا خيرا، ونحن الفقراء إلى رحمتك، لا علم لنا إلا ما
علمتنا، ولا هدي إلا هديُكَ، عَرضتَ الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن
يحملنها، وحملناها نحن، فَسَيَّرتَ الكون على أمرك لا خيار له، فانتظم أمره
انتظاما بديعا لا خلل فيه، وكان ذلك هو سجود المخلوقات وتسبيحهم وانقيادهم لك، ما
رأينا في خلقك من تفاوت، وأرجعنا البصر مرات ومرات ولم يكن هناك من فطور.
وقبلنا نحن الأمانة، فَأَخْلَفْتَ آدم في
الأرض وذريته من بعده، وأعطيتهم الخيار وحق القرار، وهديتهم النجدين، وبَيَّنْتَ
لهم طريق الحق وطريق الباطل، وأرسلتَ رُسلكَ بالإيمان بك، والكفر بكل ما يُعبد من
دونك، وثنا كان أو فكرا، عجلا كان أو ابنا؛ تكاد السماوات يتفطرن من عبادة البشر
له، وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، فما ينبغي أن يكون لك ولدا، وما ينبغي لأحد أن
يكفر أو يُشرك بك. وما ينبغي لأحد أن يعصيك أو يتمرد عليك.
وكانت سُنَّتكَ في الغابرين عذاب الاستئصال إن
هم كفروا بك، بالطوفان أو الصيحة أو الحجارة والريح، ثم أكملتَ - وأنت الأعلم
والأحكم وحاشا لنا أن نتكلم بما لا نعلم -
مهامَ التكليف والأمانة للإنسان زمن موسى عليه السلام، ورفعت عذاب
الاستئصال عن القوم الكافرين والظالمين، وأوكلتَ لعبادك المؤمنين القيام بمهمة
محاربة الكفر والظلم، ففرضت الجهاد عليهم.
فأصبح الإنسان مُخيرا، وقد كُلف بمهمة إعمار
الأرض، ونشر التوحيد، وإقامة العدل، وأخبرته أن الأرض لن ينتظم أمرها، ولن تُخرِجَ
بركتها، ولن يعم العدل في ربوعها، إلا بشريعتك الغراء الخاتمة، شريعة محمد صلى
الله عليه وسلم ، وذلك قولك " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" كما كان الأمر مع الشرائع السابقة قبل التحريف بقولك
" وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ
إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ".
فإن نحن يا رب قمنا بهذه
المهمة، فقد انتظم أمرنا كما انتظم أمر السموات والأرض، وإن نحن خالفنا، فقد اختل
أمرنا كما يحدث الآن.
ونحن الآن في الخيار، إما أن
نكفر أو أن نؤمن، وإما أن نطيع أو أن نعصي، فمن آمن وأطاع فقد أدى الأمانة، ومن
كفر وعصى فقد خان الأمانة، وكان سببا مباشرا في خراب العمران وانتشار الظلم.
وقد قُلتَ "
اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" فظن البعض أنها حرية
شخصية، وأنها التصريح المفتوح بفعل المعاصي والمخالفات، التي أوجبتَ عليها عقوبات
دنيوية وأخروية، لا يختلف هذا الفهم السقيم عن فهم قولك "فَمَنْ
شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" أنه تصريح وموافقة على حرية
الاعتقاد وحرية الكفر، ونسوا أو تناسوا أن ذلك يدخل ضمن التخيير الذي منحتهم إياه
بموافقتهم على حمل الأمانة، وأن ليس لهم شرعا حق الكفر، بل هو فعل مرفوض لديك،
وأنت القائل " وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ" وأن
عليه عقوبة أخروية كما أن عليه عقوبة دنيوية، فَصَّلتَها في كتابك وفي سنة نبيك
صلى الله عليه وسلم ، وكانت على درجات مختلفة من الأحكام، فغير المسلم قلت فيه
" قَاتِلُوا
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ" وقال رسولك فيه في الحديث المتواتر المروي عن ابن عمر رضي
الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" : أمرت أن
أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا
الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق
الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى" رواه البخاري ومسلم .وأن أمر جهاد الطلب في الإسلام من المعلوم من الدين بالضرورة،
وأحكامه المبنية على الدعوة إلى الإسلام بالحجة والبيان، وبالتفكر والتدبر،
وبالحوار والرحمة، يتبعه حكم دفع الجزية لمن يرفض دخول الإسلام، وإلا فالقتال، وهو
الأمر الذي أدى إلى انتشار الإسلام بالنتيجة، وهو الذي أخرج الصحابة من جزيرة
العرب إلى الشام والعراق ومصر وإفريقيا وخراسان، وكان خروجهم جهاد طلب ولم يكن
جهاد دفع، كما يزعم من أسقط الطلب من حساباته واكتفى بجهاد الدفع، وكأن قتال عمر
بن الخطاب في فارس كان دفعا عن المدينة المنورة وليس نشرا للإسلام !
أما على صعيد المسلم، ومع
أنكَ مَلَّكتهُ القدرة على تغيير دينه، إلا أنك لم تُمَلِّكهُ الحق بذلك، واعتبرت
ذلك على لسان رسولك الذي لا ينطق عن الهوى ردة، وحكمت عليه بالقتل على يد الحاكم
بعد الاستتابة بقوله صلى الله عليه وسلم
الوارد في الصحاح " من بدل دينه فاقتلوه" وقوله صلى الله عليه وسلم
" لا يحل
دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ،
والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة" رواه البخاري ومسلم.
فأين ذلك من حرية الاعتقاد المزعومة.
اللهم إنهم انبهروا بحرية
الغرب، فأصبحوا عبيدا لها، وهو الذي اضطرهم في المحصلة إلى طرح الأحاديث الصحيحة
والمتواترة جانبا، بعد أن ضربوا الحديث بالقرآن، متتبعين ما تشابه منه ابتغاء
الفتنة وابتغاء تأويله، سُقْمَاً بالفهم، وتسللا عن النص، وهروبا من الاتباع
والتسليم، بينما أخذت الأمة الإسلامية بمجموعها منذ البعثة إلى يومنا هذا بأحكامك
الشرعية، وآمنت بحديث نبيك، ووفقت بينه وبين القرآن، وسَلَّمتْ لك، إلا قلة مولعة
بتقليد الغالب، مُنبهرة بغيرها المنتصر، وفاقدة الثقة بتشريع ربها، واثقة بشرع
الأمم المتحدة ومواثيقها الدولية.
اللهم إن حرية الإسلام هي
الحرية، فهي التي حررت الإنسان من الخضوع للأهواء وللأفكار وللعباد، فإنك أنت
الوحيد الغني عن العالمين، والخبير بحالهم وبما يصلح لهم، وليس لكَ حاجة عند أحد
من عبادك فتُحابيه،وليس بينك وبين أحد من خلقك نسب، فشرعكَ هو العدل، وهو الحق،
وهو الخير، وهو الحكمة حتى وإن غاب بعضٌ منها عن أفهامنا، أما شرع غيرك فإنه الظلم
الخاضع للمصالح والأهواء الشخصية والقومية والبشرية.
اللهم إن حريتهم محض عبودية
للآخر المنتصر، ولم يرى المنهزمون منها إلا ربع كأسها الممتلئ، وتعامت أبصارهم عن
ثلاثة أرباعها الفارغ، فالكوارث التي تسببت بها حريتهم - التي نالتها شعوبهم فقط
في ليبراليتهم الخاصة، وديمقراطيتهم الطبقية - تسببت بالدمار والخراب والظلم لثلاثة
أرباع الأرض، ونهبوا لأجلها حضارات، وأبادوا أمما، وخرقوا فيها حتى طبقة الآوزون، وهم
فيها عبيد الأهواء والشهوات، وتحت حرية الاعتقاد، عبدوا البشر والحجر، وعبدوا
البقر والشجر، وعبدوا العقل والجسد، وعبدوا حتى فرج المرأة والفئران، ومارسوا تحت
ظلها الشذوذ الجنسي والفسق والفجور وما لم يخطر على بال أحد، فاختل أمر الأرض
والإنسان أيَّما اختلال.
أما حريتنا، فقد تحررنا فيها
من كل أنواع العبوديات، لنكون لك وحدك عبادا مخلصين، ولنعمر الأرض بخير ما
تُعَمَّر به، ولننشر العدل الذي لا يتم إلا بشرع من لا يظلم أحدا، كما حدث في عصور
نهضتنا السابقة.
اللهم إن حريتهم ضنك وظلم
وخراب في الدنيا، تستوجب العقاب الدنيوي على يد من حريتهم هي حرية إخراج العباد من
عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
اللهم إن حريتهم بالكفر تودي
بهم إلى جهنم خالدين فيها، وحريتنا تودي بنا إلى نعيم جناتك
فمن يا رب أرحم بالبشرية
الذي يخادعهم ويجاملهم في
حريتهم المزعومة، لينتهي بهم المقام خالدين في النار، لا قيمة لحياتهم الدنيا
وحريتهم المزعومة مقارنة بمصيرهم البائس.
أم
من يدعوهم بالحسنى، ويحاورهم
ويدعوهم للتفكر والتدبر والإيمان ثم هو يأخذ على أيديهم بالقوة إن هم أبوا، فيكون
- في أسوء الأحوال- أبناؤهم وأحفادهم على
الإسلام إن لم يؤمنوا هم – كما حدث معنا نحن سكان الشام يوم فرض علينا خالد بن
الوليد بجيوشه الفاتحة الإسلام أو الجزية - ويكون مصيرهم جنات النعيم.
اللهم إن أصبت فمنك وحدك لا
شريك لك، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان
اللهم إن هذا ما أدين لك به
وهذا ما تعلمته من كتابك ونبيك
اللهم فاشهد.
27/11/2017