الأربعاء، 19 سبتمبر 2018

حَمِّلْ البَرِيزة


حَمِّلْ البَرِيزة
بَاغَتَني المُحَقق ذات يوم بسؤال مُحرج :
إنتَ صقور أم حمائم ؟
لم تُسعفني بداهتي على الإجابة السريعة، فالسؤال صعبٌ، استعرضت تاريخي الماضي باحثا عن هويتي، فاكتشفت أن حالة (الصقورية) أو (الحمائمية) لها علاقة بحالتي الإيمانية (أرجو من الحمائم أن لا يغضبوا مني، فنحن نعيش أجواء الحرية والرأي الآخر) فكنت كلما تحسن إيماني وزادت عبادتي، أُحَلَّقُ عاليا كالصقور ، وبالمقابل كنت كلما تَفَلَّتُ من ضوابط الشرع  أطير حيث شئت كالحمام، وهروبا من الإجابة أخبرت المحقق، أني مثل تصنيف والدي رحمه الله عندكم (وهو عندي المُسالم التقي الورع)، فاقتنع بالإجابة على اعتبار أنَّ (الوَلَدَ سرُّ أبيه) ونسي أو تناسى أن (ثلثين الولد لخالو) وخالي الدكتور سفيان التل معارض شرس (ما بعجبو العجب ولا الصيام في رجب).
مشكلجي طول عمري ... شو أعمل، الشغلة شغلة جينات موروثة
فانظر إلى كافة الجهات رغم تباين مواقفها،  كلها ضدي، فجماعة أردوغان بودهم لو أسكت، وجماعة حماس كادوا يأكلوني، أما جماعة قطر والجزيرة فحدث ولا حرج، وعلى النقيض منهم فجماعة الجمعية المُنشقة ماخذين الموضوع شخصي، وأيتام خادم الحرمين كادوا يُخرجوني من الملة لمقالاتي وبوستاتي عن السعودية، أما الملحدين فلم أسمع منهم أي رد، لأن استفحال حالة الغباء حجبتهم عن إدراك الأشياء؛ سوى قبح عقولهم المفتونين بها.
المهم؛ وبعد هذا الاستعراض يبدو أن هذه المواقف ليس لها علاقة لا بالصقورية ولا بالحمائمية ، وربما رَدَّها البعض لحالة ثالثة تسمى (الغُربانِيَّة) نسبة لطائر الغراب كناية عن التشاؤم، ورغم عدم تسليمي لهم بذلك، إلا أن الغربان لا زالت تُحلق فوق رأسي منذ زيارتي لعيادات الجهاز الهضمي في مستشفى الجامعة قبل ثلاثة أيام، فقررت تغيير مسار معاركي، من معارك على الأحزاب والجماعات إلى معارك على المهن والتخصصات (لا تفرحوا كثيرا فهو تكتيك مؤقت) ولسوف (أُسَلَّط قردي على قمحات) الأطباء.
سؤال : ما هو الشيء الذي يُفقد الطبيب اتزانه فيجعله يتصرف كالولد الصغير  ؟؟!!
الجواب : أن يعرف أنك ذهبت إلى طبيب آخر قَبْلَهُ !!
يعتقد بعض الأطباء (بلسان الحال) أن الله عندما كتب على الجنين في بطن أمه، أجله ورزقه وسعيد هو أم شقي، أنه أيضا كتب لنا نحن المرضى اسم حضرة الطبيب المختص الذي يصلح لكل زمان ومكان، وأنَّ معرفة اسمه هي من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فالويل لك ثم الويل لك إن ذهبت إلى طبيب قبله أو استشرت حمارا (ينطقها أو يكاد) قبل أن تأتي إلى ديوانه العامر.
لم تكن حالة واحدة استدعت مني كتابة مقال بها، بل لقد أصبحت ظاهرة، لم تكن أولّها ولن تكون آخرها زيارتي لمختص في مستشفى الجامعة الحكومي، امتنع عن استكمال علاجي، لأني ذكرت له اسم طبيب راجعته قبل عشر سنوات في نفس الحالة في عيادته الخاصة خارج دائرة المستشفيات الحكومية كلها، علما أن حضرته يتابع حالتي منذ أربعة أشهر وعمل لي الفحوصات اللازمة والتنظير اللازم، وبمجرد أن نسي أني جئت عنده بتوصية من زميل، ولم تعد حالتي تتجه نحو إجراء عملية (مربحة ماديا)، وما أن سمع اسم الطبيب الآخر، حتى اهتز كالذي أصابه مس من جان، فتقيأ عليَّ بخلاف أخلاق عشيرته المحترمة، فخرجت محتسبا من عيادته بعد أن ذكرته بقسمه الطبي :
"أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي ،وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال باذلاً وسعي في استنقاذها من الهلاك والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم ، وأستر عورتهم ، وأكتم سرهم ..."

أما طبيب الركبة المشهور، والذي أخذ يزبد ويرعد عندما أحضرت أبني إلى عيادته، لِشَكَّي أن طبيبا آخر أخطأ مع ابني في عملية أجراها في ركبته سابقا، فقد عقد لي ولأم طارق (محكمة تفتيش) بسب عدم الحضور عنده أولا، ولم يعترف حتى بصور الرنين المغنطيسي، ورفض النظر إليها ابتداء، لأنها لم تُمَهَّر بطلب من مقامه السامي، ثم اكتشفت فيما بعد أنه يحضر طبيبا آخر (مقاول بالباطن) لإجراء عمليات منظار الركبة باسمه لأنه لا يتقن استخدامه.
إن التجارة من الضرورات الأساسية لتلبية حاجات الناس ومتطلباتهم، والطب من الضرورات لاستمرار حياتهم وتحسينها، أما عندما يتحول الطب إلى تجارة، كما فعل معي طبيب باطني قبل عشر سنوات وأراد تحويلي لعملية تحت البنج لإزالة قشرة بزر صغيرة علقت في حلقي، فذهبت إلى صديقي الصيدلي في نفس المستشفى، فلطم على وجهه، ثم طلب مني أن آكل (مارس) واترك الكراميل يلامس حلقي ويقوم هو بالعملية، فلصقت به قشرة البزر، وانتهت المشكلة بنص ليرة وطعم شوكلاته لذيذ.
قصص كهذه وتلك كثيرة، لا تمنعنا أن نشكر الصنف الآخر من الأطباء، منهم على سبيل المثال لا الحصر صديق الوالد الطبيب الإنسان رحمه الله الدكتور علي مشعل آية في الخُلق والإحسان، والدكتور عدنان الجلجولي الذي كان يتاجر بعيادته مع الله، ففتحها للفقراء والمساكين أطال الله في عمره، والطبيب الخلوق الذي يرفض ذكر أي زميل له بسوء، حتى لو كان (عامل السبعة وذمتها)، والذي امتنع عن اجراء عملية جراحية لقريبة لي، وهي على باب غرفة العمليات، عندما اكتشف ان حالتها تحسنت ولا تحتاج إلى عملية، الطبيب الأمين المؤدب الدكتور فوزي عليان.

إن أسوء أنواع التجار الذي يتاجر بالدين ويتاجر بالبشر، فذاك ينافق للسلطان أو ينافق للجماهير، ويَتَرَبَّح على ظهر الدين، وهذا يتاجر بصحة الناس وأجسادهم، ويَتَرَبَّح على ظهر مرضهم، هم أولى بالرقابة والمحاسبة من مكاتب تشغيل العاملات التي يتاجر بعضها بالبشر.

هي ليست غُربانيَّة ولا صقورية ولا حمائمية، إنما هي وضع الأمور في نصابها، فمنظومة القيم المنهارة، والأخلاق المنعدمة، والتجارة بالدين والبشر، والحال المتردي الذي وصلت إليه أغلب الأحزاب والقطاعات في بلدنا لا تبشر بخير.
فقد كنا أيام الشباب قبل أكثر من ثلاثين سنة نتعجب من كونترل الباص وهو يقول للشفير : "وقف الباص خلينا نطلع هذه (البريزة)" فأصبحنا اليوم لا نتعجب عندما يقول الطبيب للسكرتيرة : "دخلي (العشرين ليرة) اللي بعده".
ربما تكون قيمتنا ارتفعت بأعين التجار من بريزة إلى عشرين دينار ... وهذا جيد
إنما المؤسف أن الطبيب نزل إلى مستوى كونترول الباص مع احترامي لكل شفير وكونترول محترم
طارق ... إياك أن تكون من هذا الصنف وكن من صنف مشعل والجلجولي وعليان
وإلا بترفش ببطنك
19/9/2018





السبت، 8 سبتمبر 2018

طِيبة أم هبل


طِيبة أم هبل
يتجدد عندهم، صراعُ (الطيِّبَة نفوسهم) مع ضدها وعكسها، فَيُظهر أسوء ما فيهم، إنه نيوتن وقد تجلت نظريته بأبها ما يمكن، فكما أن لكل فعل رد فعل ، وكما أن لكل الأشياء أضداد توازيها، وقوة تعاكس اتجاهها، فلن يكون ضد الطِيِبَة السارحة الناثرة شدوها إلا الغضب الموجه المركز، إنها المعركة التي يخوضها الطيبون مذ شعروا بالتغرير أول مرة، يوم خاب ظنهم في التجربة الأولى، فهم لطيبتهم لم يتوقعوا يوما أن هناك في الحياة شيئا ضد البراءة ، وأن في الناس من يتنفس غيرها، لكن الطيبة الغضة تغلب الشقاء الغض منذ بواكير التشكل والقولبة، وكلما مر على هؤلاء الزمن، وكلما ردحت بهم الأحداث ردحا ، كلما أشتدت الطيبة وقوي عودها وعلى الضد من ذلك كبر فيهم اللؤم الكامن، وبقي صراع (المَسْك أو الإرسال) مُعَلَقَا مع الأيام، هم أعرف الناس بالمثل القائل (احذر غضبة الحليم)، فإن الحليم بغضبه يُخرج أضداد الطيبة والتسامح المكبوت منذ سنوات العمر الغابرة، ومنذ ضحكات النصابين عليه يوم غُرر به ذات ربيع ، ومنذ اكتشافه للمصالح التي كانوا يتقربون بها إليه، لا لصداقة تُرجى، ولا لروح تآلفت، إنما لحاجة مُرجاة وبضاعة مُزجاة، فكان في كل مرة ينتصر، ولكن أصعب ما في هذا الانتصار هو شعور خصومه وقناعتهم المتعاظمة أنه أهبل، كان يمتلك الرد، وعنده الحُجَّة، ولم تنقصه الوسيلة، لكن نفسة السامية كانت تغلب، وهم في وهمهم يعتقدون أنهم هم الغالبون ، كم غاظه هذا الشعور وكم ساءه هذا التعالي، لكن لذة المنتصر على الضد بداخله كانت تطغى ، لا يوازيها في ذلك إلا لذة الفاتح المنتصر يوم هزم العدو، وصنع المجد، وحفظ البيضة، وأقام العدل، يتردد صدى الرضى في نفسه؛ تردد هتاف المصفقين له يوم نصره ، ويلمع بريق الألعاب النارية في عينيه وقد أُعْلِنَ القائد الملهم وصانع التاريخ والمجد التليد.
صراع يقف به على الحافة، وقد واجه أوجع الخذلان، وملحمة ذهبت به أبعد بكثير مما كان يظن نفسه قادرا عليه، يواجه في يومه وليله الضد بداخله، يغالبه بالطيبة التي وإن كانت متجذرة كالليث الذي ما ملك إلا بندوب معاركه وجراح أيامه، وقد وسمته شاهدة على هزيمة نوازعه وأضاده ، وَتَأَسُّدِه متفردا منتصرا على نفسه الشقية، إلا أنَّ غريزة الافتراس ملازمة له، لا يدري متى الحيوانية بداخله تخرج عن السيطرة، ويؤذن لها بالسيادة
7/9/2018