الثلاثاء، 14 أغسطس 2018

كُلكم ضدي


بسم الله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كُلكم ضدي
الكُتَّابُ ومن كان لهم اهتمام بالأدب يُدركون أن المكتوب المُؤَثِرَ، هو ذلك المكتوب الذي اقتات على قلب كَاتِبه، أو أن أحداثه كانت من تجربة الكاتب الشخصية، لذا تراهم يزعمون بعد كل مقال أو رواية، أنهم كشفوا طابق الكاتب المستور، فانظر إلى حال العبد الفقير (حضرتي)، فبعد أن كتبت مقالي قبل الأخير (شاورما صاج) تجدد شعوري أن كل الناس ضدي، وبدؤوا ينظرون إليَّ على أني شخص محكوم من قبل السلطات العليا في البيت، وأن السلطة الحقيقة هي بيد لبنى العقاد (أم طارق)، وإذا أضفتَ إلى ذلك بعض النظريات الغبية القائلة، أن القوامة في البيت ليست بيد الرجل، ويفسرون كلمة (رجل) في القرآن بمعنى الساعي، وكلمة (نساء) بمعنى القاعد، يضربون بذلك اللغة العربية بعضها ببعض خبط عشواء، لا يتركون معنى من معاني العربية الواضحة إلا ويؤولونه تأويلا فاسدا شاذا، مجاراة لهوى العقل، وتزلفا للآخر، أو خوفا من سلطاتهم العليا في خدورهم، إذا جمعت كل ذلك مع بعضه، فستصل إلى نتيجة مفادها أن حضرتي (رجل محكوم).
وهذه النتيجة بالطبع نتيجة فاسدة، فالكاتب في سعة من أمره، يكتب أحيانا تفاصيل دقيقة عن واقعه ومشاعره، وأحيانا كثيرة يتقمصُ الكاتب حالة معينة ويتمثل شخصية محددة يستغرق في تفاصيلها، مستعينا بأحداث حقيقية، فيضحك مع المنتصر ويبكي مع المهزوم، هائما ولهانا في موطن، وثائرا فيلسوفا في آخر،  ليتمخض ذلك عن مقال مُضحك هنا أو خاطرة مؤثرة هناك، وبما أن (كلكم ضدي)، فأنا على يقين أن الكثير لن يصدق أني أتقمص حالة (كلكم ضدي) في هذا المقال.
بدأت أكتشف المؤامرة في سن مبكرة، وأصبح شغلي الشاغل جمع الخيوط والأدلة، مُدركا الكم الكبير من الناس الذين لا يسرهم تقدمي ونجاحي، فأولاد الحارة يُصِرُّون أن ألعب بموقع حارس المرمى لا الهجوم ... فكركم شو السبب !!! وأختي الكبيرة أم عمر كانت تضربني وأنا صغير بحجة الضبط والربط ... أبصر من وراها ؟؟؟ أما أختي أم صلاح فكانت تزعم أن خَدِّيَ مُغرٍ، فكانت تنتهز فرصة انشغالي بحل مشاكل الإسلام والمسلمين وأنا في الجامعة، وتصفعني على وجهي وتهرب ... أكيد الماسونية تريد تعطيل سعي لأستاذية العالم !!! اتضحت المؤامرة، ولم يعد هناك من شك، فحتى أستاذ الفيزياء في المدرسة زعم أني لم أُسَلِّم ورقة الامتحان ووضع لي صفرا مكعبا، ومع  أنه اعتذر في اليوم الثاني بعد أن وجد ورقتي بين أوراقه المبعثرة، لكني بت لا أشك أنه فعل ذلك لأنه فلسطيني ويكرهني لأني أردني، وما أظن أم طارق  تمنعني من (شاورما الصاج) إلا لأنها فلسطينية ولا تريد مني إلا أكل المسخن والملوخية  لا المنسف والمكمورة ... شكلو حكماء بني صهيون وراء الموضوع !!!
الوحيدة التي لم تكن تتأمر عليَّ أمي حبيبتي، كانت دائما تجدني مُحِقَا، دأب الأمهات الرائعات مع أولادهنَّ، أما والدي رحمه الله واخواني وأصدقائي فكلهم ضدي، حتى عمر الشروف دائما ضدي، لا يترك لي منشورا إلا ووكزه، ولا فكرة إلا وجادل بها، وحتى الجن اشترك في المؤامرة الكونية ضدي، فهو يطاردني بالعين والحسد والسحر، وأدل دليل على ذلك، أني يوم كتبت منشورا أبارك فيه لطارق تخرجه من كلية الطب، طرقتني عين ما صلت على النبي، ففي يوم واحد، تعطل محرك سيارتي، وانسطح المبادل الحراري في غرفة البويلر، ووقعت الثريا في غرفة الضيوف بجانب رأسي.
ألم أقل لكم أن الإنس والجن ضدي .... واضحة ما بدها حكي !!!
ومع أن الله سبحانه وتعالى يُذكرني وعباده بعكس ذلك تماما، بقوله : " أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، فرغم وجود جيش قريش الكافر في معركة أُحد، ورغم غلبة عدده، ورغم احتدام المعركة وهزيمة المسلمين بالأسباب الظاهرة، إلا أن الله أقّر الحقيقة المطلقة " هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ"، لأن أداء الواجبات والأخذ بالسنن خير طريق لتحصيل الحقوق وإتمام المُنجزات، لكن المشكلة تكمن أن إقراري بهذا؛ يعني أني أتحمل مسؤولية إخفاقاتي وأخطائي، وهذه حقيقة مُرَّة لن أستطيع مواجهتها، كما أن غالب البشر مثلي لا يحبون مواجهتها، أفرادا وجماعات كانوا أو دُوَلا، فالإقرار بها يعني أن الشخص أو القائد أو الحاكم قد فشل، والحل الأسهل له هو اتهام جهة خارجية، والخروج من التبعات كما تخرج الشعرة من العجين، بينما الحقيقة تقول أن الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ (عُصْبَةٌ مِّنكُمْ) لا منهم.
 فنحن لا نتحمل مسؤولية ضياع فلسطين والحق على بلفور، وليس الثوار الذين كانوا على مئة ملَّة، يُنَفَّذُونَ إملاءات الجهات الممولة، هم سبب فشل الثورة السورية، إنما السبب روسيا وإيران، وانهيار العملة التركية لأسباب بُنيوية مُتعلقة بالاقتصاد التركي، وبسنة محق النظام الربوي، والمستمر منذ أعوام وحذر منه كل خبراء الاقتصاد، سببه المؤامرة الكونية؛ لأن كل الناس ضدنا، وكأن الله لم يخلق التدافع بين البشر لعمارة الأرض، إنما خلقه لتبرير القصور والعجز وجمع الجماهير وراءنا لمواجهة المؤامرة والنفاد من المحاسبة على التقصير وعدم الأخذ بالأسباب الحقيقية والشرعية إلى معارك دون كيشوت مع طواحين الهواء.
دولة الكيان الصهيوني لم تأخذ فلسطين بسبب وعد بلفور، إنما أخذتها لأن المسلمين كانوا في أضعف مراحلهم.
 ومحرك سيارتي لم يتعطل بسبب الحسد (رغم إيماني بوجوده) وإنما تعطل لأني لم أعمل الصيانة المطلوبة.
وانهارت العملة التركية نتيجة لأسباب موضوعية كثيرة.
 وأم طارق منعت شاورما الصاج لأسباب صحية.
 وأنا فقدت السيطرة والقوامة في البيت لأسباب موضوعية.
وما نشأ عن كل ذلك من؛ أخبار مُضحكة تداولتها المواقع وتلوكها الألسن، كقرار تميم بيع الغاز القطري بالليرة التركية دعما لأردوغان ، أو مقال (كلكم ضدي)، هي مجرد محض إشاعات تكمل نظرية المؤامرة الكونية.
وبعد أذنكم ... سأغادر
 لأني قررت أن أنهض بشأن نفسي ولا ألقي التبعات على غيري
 ومُتأخرا الآن س(أقطع راس القط من أول ليلة)
.
.
إذا سمحت أم طارق بإدخل القط للببيت ... ابتداءً
وسَلَامِتْكُمْ
14/8/2018

الأربعاء، 8 أغسطس 2018

الكبش الأقرن


الكبش الأقرن
ما أسهل أن تَخطَّ الكُتبَ بالكلمات، وما أهون أن تَصُمَّ الآذانَ بالخطب، فالكلام في زمن الهزيمة ليس عليه من رقيب ولا ضريبة،  إلا إن كان كلاما عن سُبل الغلبة وأسبابها، مئات المُنَظِّرين ينسابون أمام أنظاركَ كل يوم، يتقيَّؤون عليكَ معاركهم مع طواحين الهواء، يسرحون بكَ مع أفلاطون في مُدنهم الفاضلة، يحسبهم السامعُ فتحوا المدائنَ ومَصَّروا الأمصار، وإذا ما هاعت هيعةٌ فلا تحسُ منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزا.
يزعم الناس أنهم يحبون الله ورسوله، فيعرضهم الله على نوره الكاشف فينكشفوا، ويبتلي أخبارهم فيُفتضحوا
 آلله أحب إليهم من أنفسهم ؟؟
 أم شرع رسوله وهديه أولى من مصالحهم ومغانمهم ؟؟
 علم الله ما في قلوبهم قبل خلقهم، إنما أرادَ أن يُعَّرفَ عبادَهُ بهم، ويُرتِّبَ درجاتهم في الفانية قبل الباقية، حتى يكون كلٌ وما صَدَّقَهُ عمله ... أم يقولون على الله ما لا يفعلون، ويُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، وهو أعلم بمن اتقى.
وفي غفلة عن هذه المعاني السامقة، وفي غمرة يومياتك السادرة الرتيبة، يأتيك النور الكاشف، من حيثُ لا تحتسب، ومن أوهن المنافذ يتسلل، ربما يكرر الله فيه مع عباده الآخرين ابتلاءات الأولين، ابتلاء آدم وإبليس، وقد هداك النجدين ووضع أمامك الخيارين، هو حَظُّكَ من الأمانة التي عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال وحملتها أنت، تتمنى حينها لو كنتَ ترابا، أو أنك لم تكن ذاك المخلوق المُكرَّمَ ب (القدرة على الاختيار) لسان حالك؛ يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيا منسيا، وأنَّى لك ذاك، فقد سالت الأقدار بحظك من الامتحان، وتدفقت المكوناتُ متناهيةُ الصغرِ من لدن اللطيفِ الباطنِ الذي ليس دونه شيء، القائمُ على كل نفسٍ بما كسبت، تدفقَ الأسباب الغلَّابة، لا تترك أمةً إلا وابتلتها، ولا عبدا إلا ومسَّتهُ؛ بشوكة يُشاكها، أو إسماعيل من دمه ولحمه يذبحُهُ، قرابين تُقَدَمُ أو تُؤَخَرُ، منها السمين ومنها الهزيل، فتُقُبِّلَ من أحدهما ولم يُتَقَبَّل من الآخر، وكثيرٌ منهم يولُّون الدبر.
ربما غُفِرَ لهم لو أنهم عَضُّوا على أصل شجرة، أو اعترفوا بضعفهم، وربما تجاوز عنهم الرحمن لو  أقرُّوا أنهم كانوا يكذبون على الناس وعلى أنفسهم، أما أن يخرجوا من المعمعة مُستكبرين مُبدِّلين مُحرِّفين، تراهم يُزحزحون الحق عن مساره، محرفين الكلم عن مواضعه، مُزكِّين أنفسهم مُبررين سقوطهم؛ بتبديل ما ثبت من الوحي ليوائم حالهم، لابسين ثوب الراعي وهم الذئاب، متوشحين النصر وهم المهزومون
 فأولى لهم ... ثم أولى لهم.
ولن يدرك حال هؤلاء إلا من اجتاز القنطرة، وحدَّ سكين إبراهيم يقتطع به لحمَهُ ودمَهُ، وبين يدي النور الكاشف يُجاري الكائنات تسبيحا وتسليما، فاعلا ما يُؤمر، راجما الوسواس الخنَّاس، صاغرا بين يدي الجبار الظاهر الذي ليس فوقه شيء، معترفا أن لا قبل له بحمل الأمانة إلا بمدد منه ومعونة
ثم يُقدم قربانه وقد صَدَّق الرؤيا
"فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ"
8/8/2018


السبت، 4 أغسطس 2018

شاورما صاج



شاورما صاج
فاجأني الأولاد ليلة البارحة بهدية، حذاء رياضة نوع أديدس، فقد عُدتُ للمشاركة في لعبة كرة قدم عريقة عمرها ما يقارب الثلاثين سنة، حيث كنا مجموعة من طلبة الاتجاه الإسلامي في كلية الهندسة، نجتمع (مُتَخَفِّينَ) صباح كل يوم جمعة في منتزه عمان القومي، نمارس رياضة كرة القدم كتربية بدنية، استعدادا لحُلم أُستاذية العالم، ثم نُتبع ذلك بفطور (حمص وفول) نحضره معنا من مطعم الأمانة في البلد، نُعَوِّضُ به ما فاتنا من طاقة (كالوريات) حرقناها كرمال عيون معركة الأمة المُنتظرة.
استمرت اللعبة ليومنا هذا، غاب عنها وجوه قديمة تُوفَّي بعضها  رحمهم الله، ومنهم من ينتظر أطال الله في أعمارهم، ووفد عليها وجوه فاضلة جديدة، وكان لا بد لمواكبة عودتي الميمونة إلى الملاعب، من حذاء جديد، فكانت هدية الأولاد بوط أديدس (هاي نيك) أصفر كبوط ميسي، ورغم أن الحذاء من النوع السَّرِيع والهَدِّيف، إلا أن (القالب غالب)، فاللاعب الماهر بعمر العشرين سنة غير الختيار الفَكَّيح بعمر الخمسين سنة، والسبب الأهم الكرش الذي عاد للتدلي من جديد.
استقبلني الأولاد في البيت صباح الجمعة مستفسرين عن المباراة وعن الأهداف التي أحرزها الحذاء الجديد؟؟ فكانت الخيبة أن البوط الأصفر لم يحرز إلا هدفا واحدا !! قرأتُ الحزن على وجوههم، فهم كالعادة سيستخدمون البوط عند اللزوم، كما يستخدمون عطري الخاص عند اللزوم أيضا، رغم كثرة أحذيتهم وعطورهم، دأب الأبناء مع الآباء منذ القدم، وهذه الأخبار مقلقة لهم إن اضطروا للعب مباراة كرة قدم بهذه البوط سيء السمعة.
وبصفتي الأب الحنون فقد قررت أن أُعيد  للبوط هيبته الكروية، ومكانته التي تتناسب على الأقل مع سعره الباهظ ، ولن يكون ذلك إلا بالتخلص من الكرش، واستعادة اللياقة من أجل إحراز العدد الأكبر من الأهداف، فقررت البدء بالرجيم من الغد، وكما هو معلوم عند أصحاب الحميات الغذائية، فإن الليلة التي تسبق الرجيم هي (ليلة الجائزة) أو يمكنك تسميتها (العشاء الأخير) حيث ينتقم  العازم على الرجيم من الرجيم سلفا، فلا يترك شيئا إلا وأكله، ولا عصيرا إلا وشربه، ولا شيئا بنفسه إلا وفتك به، استعدادا للمجاعة القادمة.
أرادت أم طارق السهر عند أخيها الليلة قبل سفره غدا، وكانت مترددة حتى لا تتركني  في البيت وحيدا حزينا، بينما أنا أشجعها للذهاب عنده مزاودا عليها أني أضحي من أجلها؛ حتى أستكمل مشروع (العشاء الأخير وليلة الجائزة) ضمن نطاق الممنوعات المحرمة عند آل العقاد، فمثلا، هم على قناعة أن الأندومي مصنوع من (أظافر الدجاج)، وأن السنيورة ملونة بعصارة (الدودة القرمزية)، وأن الشاورما مصنوعة من لحم (الكلاب والقطط)، وأشياء كهذه وتلك، ثقافة سائدة موروثة لا نملك نحن آل التل حيالها أي شيء، نجحت أخيرا بإقناعها الذهاب من باب صلة الرحم، فتمثلتُ قول الشاعر
خلا لكِ الجو فبيضي واصفري * ونقِّري ما شئتِ أن تنقِّري
وما أن غادرت أم طارق وفاطمة البيت،حتى تسللت متخفيا وركبت  السيارة شادا الرحال نحو شارع المدينة المنورة، باحثا عن محل (شاورما صاج) حيث كان يُهَرِّبُ الأولاد - أحيانا -  بعض الوجبات منه دون علم السلطات العليا، وبعد عناء؛ عثرت عليه وطلبت وجبة شاورما لحمة، فأخبروني أنها ستجهز بعد ربع ساعة، ويا لها من ربع ساعة، تَلَفَّتُ بها عشر مرات يمنا وشمالا، خوف أن تَمُرَّ أم طارق وتشاهدني وأن أشتري الممنوعات، واقترف المحظورات.
 أدهشني مستوى الخوف من أم طارق، واكتشفت أني من القيادات المرعوبة حسب وصف رئيس الوزراء الأسبق عبد الرؤوف الروابدة، لكن الذي أدهشني أكثر من ذلك هو الحوار الدائر بين الشباب الواقفين أمام المطعم ينتظرون وجباتهم، أرخيت السمع لكلام العامة كعادتي، متلمسا قياس ما وصل إليه حال شبابنا هذه الأيام، ومُتتبع مستوى اهتماماتهم على اعتبارهم عينة عشوائية غير مخطط لها.
أيُعقل أن فرق الثلاثين سنة الماضية وصل بنا إلى هذا الحال ؟
وهل أصبحت الدراية بكمية المايونيز والكاتشب في وجبات المطاعم هي معلومات يتفاخر بها شباب بعمر الورد ؟؟!!   
طار الخوف من عيني ونسيت أم طارق وقوانين آل العقاد وأنا أتابع تفاصيل النقاشات، متحسرا على جيل كان قديما بكافة اتجاهاته؛ له أهدافا محددة وتصورا لما يريد من الحياة، مقارنة بجيل هذه الأيام، صحيح أن هذه عينة عشوائية لا يمكن بناء حكم عليها، ولكنها في النهاية تُعطي مؤشرا لحال الأمة التي تُذبح من الوريد إلى الوريد وتُنتهك أعراض نسائها في سوريا المقاومة والممانعة على مرأى ومسمع مليار ونصف مسلم.
وهل سيُغني عنا في تحقيق أهدافنا، لبس حذاء ميسي الأصفر إن كان القالب غالب، وكنا دون مستوى مهارة التهديف المطلوبة ؟ كثيرا ما نلبس ثوب الشجاعة ونحن أفقر الناس إليها، ونتزيَّنُ بزينة العلم ونحن أجهل الناس به، ولم تعد مشكلة الأمة في عامتها ورعاعها، بل انتقلت إلى الخاصة منها، أصحاب الأهداف العليا المفترضة، فهل عاد (مثلا) أفراد الجماعات الإسلامية يفكرون بالأهداف العليا من أستاذية العالم بنشر التوحيد والعدل والرحمة التي جاء بها الإسلام ؟؟ أم اكتفينا  بالمنجزات والمغانم الجزئية وأصبحنا ندور في فلكها وتحولت عندنا من وسيلة إلى غاية ؟
أسئلة كثيرة دارت بذهني في الربع ساعة التي وقفت بها أمام مطعم (شاورما صاج)، فقررت كتابة مقال بذلك، فعدت سريعا إلى البيت والتهمت الوجبة على عجل ووجل، وأخفيت آثار الجريمة وبدأت بكتابة هذا المقال باسترخاء على اعتبار أن أم طارق ستسهر مع أخيها ولن تعود مبكرا، فتفاجأت بها تفتح الباب وقد عادت  دون سابق إنذار، حاولت التظاهر أن كل شيء طبيعي وأخفيت الارتباك الذي تملكني وأنا مطمئن أن مسرح الجريمة نظيف تماما، إلا أن علبة البطاطا التي أبقيتها للنقرشة كشفت المستور.
-          مين جايب وجبة على البيت ؟؟؟
وتحت وطأة المفاجئة، وخوفا من العواقب، اضطررتُ لتفعيل كل معلوماتي الشرعية، واستخدام كل أساليب التسلل عن النص الذي يُحرم الكذب، ولجأت إلى قاعدة (المصالح المرسلة) التي يستخدمها كل من أراد أن يُطَوِّع الشرع لمصالحه ومصالح حزبه، متناسيا قوله تعالى "وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا" اتهمت ابني عماد أنه هو من أحضر الوجبة، فدرء المفاسد أولى من جلب المصالح.
فلا تنسوني من الدعاء، لعل أم طارق تنسى سؤال عماد عن الوجبة عند عودته للبيت
اللهم إنا نسألك لطفك وعفوك
ليلة الجمعة
3/8/2018