الاثنين، 16 أغسطس 2021

رحلتي من رأس العين إلى صويلح

 




"ليث، سائح داخلي يفضل استخدام الباص السريع في جولاته السياحية"

بهذه الكلمات وجب على أمين عمان يوسف الشواربة تزيين واحدة من لوحاته الخمرية التي نثرها على طريق الباص السريع كما يذرو الفلاح أرضه بالقمح بانتظار يوم الحصاد، حصاد ال 65 قرش من جيب كل مواطن لكل رحلة على خطوط الغائب المنتظر (باص الشعب السريع).

فالسياحة ليست من الأهداف التي خطرت على بال يوسف الشواربة ولا على بال أثخن شارب في أمانة عمان، فلم يكن همُّهم إلا تأمين المواطن الغلبان بوسيلة نقل مريحة وسريعة، أما حضرتي وبصفتي لا أنتمي إلى الشعب الغلبان إنما إلى الطبقة الوسطى التي ما عادت وسطى، فقد كان همّي أن أقوم بجولة سياحية مع العائلة الكريمة في عمان عن طريق باصها السريع، أستغلها لتعريف أولادي على الباص من الداخل كباص، بغض النظر عن نوعه سريعا كان أم بطيئا. فهم ليسوا مثلنا يوم كنا في صغرنا نعتبر ركوب التاكسي كبيرة من الكبائر، بل هم الآن يعتبرون ركوب الباص من الكبائر، خاصة إن كان باص (كوستر) يُخضّ فيه الراكب وكأنه حليب في طور التحول إلى مخيض أو شنينة.

حَمّلتُ تطبيق الباص السريع وشحنت البطاقة بخمسة دنانير، التكلفة المتوقعة للجولة السياحية في ربوع عمان الحبيبة، ركنت السيارة مقابل جريدة الدستور وخرجت مع أم طارق وفاطمة الزهراء لنعبر الشارع الرئيسي نحو مسار الباص السريع وسط الشارع، كبسنا كبسة مرور المشاة بانتظار الإشارة الخضراء التي يبدو أنها كانت متعطلة، بقيت السيارات الشامتة فينا تسير بسرعة كبيرة أمامنا ولسان حالها يقول "الله لا يردكم خلي الباص السريع ينفعكم" ولّما طال انتظارنا قررت المجازفة والعبور بأهلي ومالي دون إشارة خضراء، عبرنا بسرعة رغم الخطورة، وغلبتني عيني حزنا على الشعب الغلبان الذي إن لم تدهسه السيارات السريعة في طريق وصوله إلى الباص السريع سيدهسه الباص السريع  نفسه ذات يوم.

انتظرنا بضع دقائق قبل أن يصلنا باص أزرق، فرفضنا الركوب فيه لأن باص الشعب المنتظر حسب دعاية الشواربة لونه خمري، وبعد دقائق أقبل الباص الخمري تُجَلِّله الهيبة وتتطاير من حوله الأتربة والأوساخ كجلمود صخر حطه السيل من عل، ركبنا فيه بعد أن أشهرت هاتفي بكل فخر  واعتزاز للكونترول الإلكتروني الذي خصم 65 قرش عن كل واحد منا دون أن يحتفظ بالباقي كحال الكونترول البشري، باص مرتب ونظيف وفيه أماكن لأصحاب الاحتياجات الخاصة وكبار السن وعربات للأطفال كما أن فيه شاشة تلفاز عليها خارطة لمسار الباص يظهر فيها الوقت وسرعة الباص وشريط نشرة أخبار كلها باللغة الإنجليزية، وكأن أمانة عمان أخذت على عاتقها تعليم الشعب الغلبان اللغة الإنجليزية كميزة إضافية لركوب الباص السريع، أما الحرارة وكما يظهر في الصورة المرفقة للمقال فقد كانت تشير طوال الوقت إلى 11 درجة مئوية، فبدأت أشعر بالبرد رغم العرق الذي يتصبب مني بسبب عدم عمل التكييف بشكل مناسب على يمين الباص فانتقلت إلى يساره حيث كانت الحرارة أفضل بكثير  (يبدو أن الشواربة كاين يساري بشبابه).

توقف الباص ليصعد إليه مواطن غلبان بدأ ينادي على الركاب يريد شراء بطاقة ركوب، وكأن مهمة الكونترول بالمناداة انتقلت في الباص السريع من الكونترول إلى الركاب من باب التطوير طبعا، وأنا ما كذبت خبر فوقفت بكل شهامة وأشهرت تطبيق الباص السريع في وجه المواطن ليأخذ منه ما يسد به رمق ركوبه، وبعد أن قدّمه لجهاز الكنترول الإلكتروني أعاده إليَّ وبيده نصف دينار  ثمنا للبطاقة، طبعا رفضت آخذ منه الأجرة خاصة أمام أم طارق وفاطمة، يعني بتعرفوا عيب هيك مواقف أمام الأهل خاصة ابنتي فاطمة مش حلوة أخسرها عشان نص ليرة، ولكن في المقابل خطرت ببالي فكرة أن أشحن الخلوي ب 100 دينار وأقضي وقتي في الباص السريع أبيع بطاقات من وراء ظهر الحكومة أحسن من شغل الهندسة، بس خفت من الضريبة التي  سيكون الباص السريع أقرب إليها من المزارع الخاصة التي تطاردها الآن، فعدلت عن الفكرة وتذكرت أنني في جولة سياحية وقد ألهتني أحداث الباص الداخلية عن أحداثه الخارجية، نظرت خارجا فإذا أنا على مسار سنام الجمل الثنائي عند نفق الصحافة والباص طالع نازل وقد مرّ بنا على أعقد تقاطع رأيته في حياتي، لا هو دوار ولا هو إشارة مرور ولا هو محطة ركاب بل خليط من ذلك، لو تقدمت أمانة عمان بعدد الإشارات الضوئية عليه إلى كتاب جنس للأرقام القياسية لفازت حتما، خاصة بعد فضيحة أطول يافطة في العالم.

بعد تقاطع المدينة المنورة شمّر السائق عن ذراعيه استعدادا لدخول المنطقة المشتركة مع سيارات الشعب من دوار المدينة إلى إشارات الشميساني سابقا، فصادفه هناك بكب ديانا ينازعه الأولوية، مالت الديانا على الباص السريع بشكل يجعلك تشك أن ابن عم صاحبها هو كنترول أو شفير باص كوستر متضرر من المنافس الضخم السريع خمري اللون، ومع ذلك فقد سبقت الديانا باصنا السريع ولا عزاء للشعب الغلبان وباصه السريع، مررنا من الشميساني حيث وجدنا أربعة أطفال مترفين يجلسون على جانب المسار وكأنهم يجلسون في قاعة سينما يتفحصون الباص السريع وركابه، فقد أصبحنا "فُرجة" على دور  حكوماتنا المتعاقبة الله وكيلكم، وبعد أن نزلنا من تقاطع الخامس باتجاه وادي عبدون أخذت أراقب سرعة الباص السريع لعله يُسرع قليلا وقد خلا له الجو بعيدا عن الأزمة لكن سرعته لم تزد عن ال 60 كلم/ساعة، ربما كان السائق خائفا أن يسقط عليه من ينوي الانتحار عن جسر عبدون، فيُسجَّلَ عليه تهمة دهس مواطن منتحر.

وصلنا محطة رأس العين لنعاود الكرة بركوب باص آخر للعودة إلى قطب الرحى الثاني محطة صويلح الشماء، وانتظرنا حتى امتلئ الباص بالركاب كما الباصات العادية، ثم انطلقنا وعيني لم تغادر الشاشة التي أفادت أن درجة حرارة الباص هي 11 درجة مئوية أيضا!!! شكلو في مؤامرة على الشعب، كما في رواية جورج أورويل (1984) حيث استطاع محقق الأخ الكبير في نهاية الرواية اقناع بطل الرواية سميث أن 2+2=5 وليس 4، ولا بد لنا كركاب للباص السريع أيضا الاقتناع أن حرارة الباص السريع هي 11 درجة مئوية غصبن عن راس اللي خلف الشعب كله واللي مش عاجبه يروح مشي، وهيك بكون عرفنا طريقة الحكومة في ترويض الشعب.

تجاوزنا جريدة الدستور محطتي الأولى ودخلنا المنطقة المحرمة من مسار الباص السريع المحاطة بالسياج ابتداء من جسر الجامعة ولغاية مسجد الجامعة، فقلت في نفسي هذه هي اللحظة التي سيتبرطع فيها الباص السريع ويسرع، ليثبت للشعب أنه فعلا الباص السريع، فالمنطقة محاطة بالسياج العالي وفيها ثلاثة مسارات، ولكن للأسف فالباص السريع لم يسرع وبقي يسير بسرعة حدّها الأعلى 60 كلم/الساعة. ومع ذلك فقد كانت هذه المرحلة ممتعة وجدنا فيها امرأة ضائعة داخل السياج لا تجد لها مخرجا وبعض المتنزهين يمدون أرجلهم داخل المسار يشربون القهوة على الرصيف وآخر يقفز عن السياج ليقطع الشارع رغم وجود سلالم كهربائية قريبة، وموظف كشك الباص السريع يضع رجل على رجل وقد جلس خارج الكشك يستقبل الباص السريع بقدمه الحافية عند محطة كلية الزراعة، وآخر كدنا ندهسه وهو يتمشى سارحا داخل المسار، بعد ذلك مررنا بقسم غابات الأمازون بعد مسجد الجامعة حيث الشجر المُعَمِّر على طرفي مسار الباص، ماء وخضراء ووجه حسن.

استغرقت رحلتي من رأس العين إلى صويلح 32 دقيقة أي أسرع من الوقت الذي لزم طالبان لدخول كابل، وصلنا إلى محطة صويلح التي كان يغلق المسار المؤدي إليها بعد دوار صويلح تكسي ينتظر (زبون فَلَتْ)، ولم يتحرك إلا بعد جوقة مزامير أطلقها السائق الذي طفش من الشعب الفوضوي وولدناته، اكتشفت أن رصيدي لن يكفي لركوب الباص الخمري أبو ال 65 قرش، فركبنا باص عمان الأزرق أبو ال 35 قرش للراكب الواحد، وعدنا أدراجنا إلى جريدة الدستور، قرعت جرس النزول الذي لم يعمل  فأخذت أصيح على السائق وأطبل على الزجاج كما الأيام الخوالي على متن باص المؤسسة الأحمر الذي كانت أجرته قرطة؛ أنْ أنزلنا أيها السائق فقد انتهت رحلتنا السياحية ولم يبق علينا إلا عبور شارع الموت من بين السيارات المسرعة وتحت ظل الإشارة الحمراء من رصيف الباص السريع إلى رصيف النجاة المقابل لجريدة الدستور.

أردننا جنة وباصنا سريع ومقالي باللغة العامية فعذرا.

ليث التل

16/8/2021