وأزهر الخريف
كان التقاء شَقَّيها محتوماً، فكانت
بُشرى حياته، نُسِجَ بعثها مُذ قال الودود الرحيم : "ألست بربكم"، غَنَّت
الورودُ لقدومها، وعَطَّرت الأجواءَ أنفاسُها،
قبل إحدى عشر ربيعا وخريف واحد،
ولدت، فكانت منه بمثابة الروح من الجسد،
وكان منها بمثابة الشجر إلى الظل، وهل للروح مستقر ٌ إن لم تطف بجسدها، وهل للأنام مُستظلٌ
من كَدِّ الحياة إن فارق ظل الشمس شجرها.
خبأ الخريف حَتَّ أوراقه وتساقطها عن ربيعها لموسم
الأخذ بالمظنة، فداهم ظل أبيها الوارف، وكورق الخريف تساقطت عبراتها، وكَقِرَبِ السماء
المُمسكة عبر الأيام كَظَمَ هو عبراته،
تباعدت الأجساد، فأمست هائمة الروح سارحة
النفس، لا تستقر إلى مستودعها إلا في دقائق زيارتها الأسبوعية، حيث لا ضوء هناك
آخر النفق، فما بُنِيَ على الظن فهو إلى الشك أقرب، فلا زهر في آخر خريفه يُنتظر، ولا يقين بموعد أُفوله يُرتجى.
زجاج عنابر الزيارة في السجن كالحلم،
يفصل بين عالمين ويحول بين مُتَحَابَّيْن، ففي الحلم ترى عزيزا عليك مات منذ زمن، يَتَفَلَّتُ طَيْفُهُ
من بين يديك، تستيقظ على حقيقة وجوده هناك وراء البرزخ، ومن وراء الزجاج تتلاقى المُقل المُتلألئة والقلوب الملتهبة،
كالمخاض في قدومه وكالنزع في ذهابه، دقائق معدودة، عذابها أشد من الفراق والنسيان.
يحرمكَ الكريمُ ما ألفته ربيعا طويلا،
ثم يُذيقك منه نزرا يسيرا، لتدرك النعمة وتشكر المنعم، فالألفة تُبطل الروعة،
والدوام يُنسي الحمد، يُهَوِّنُ عليك الخطبَ ذكرُ الموت، فلا لقاء بعده، إلا في
جنة أو نار، لكن موسم الأخذ بالمظنة هذا
وقد أرخى سدوله، جعل الخريف كالموت والزيارة كالحلم، إلا أن نزع الزيارة أصعب من
صحو الحلم.
يُسرع الخطى ذهابا وإيابا، يستجمع ما
عرف من معاني القوة والإباء، وما خبُرَ من تجارب الرسوخ والثبات، يُعيد ترتيب
الجمل والكلمات يُزوِّقها في ذهنه، يُرتب هندامه بما تيسر من بسيط الأدوات، يستقطر
من صابون السجن طيبا يتعطر به.
وروحه الزهراء الهائمة هناك في البيت،
تستعد أمام المرآة ، تنتقي من الملابس ما يُخفي نُحولها، وتختار من الألوان ما
يُذهب شُحوبها، فقد تفتق كرم الخريف عليها وعلى أمها وجدتها بزيارة خاصة يستظلون
بها تحت شجرة أبيها نصف ساعة من ربيع .
إن الأنثى كالزهر يُجَمِّلُ الأيام وينشر
البهجة، وإن كانت الأم والزوجة قد عرفت من الرجال أباها وزوجها وولدها، إلا أن
البنت لم تعرف منهم إلا الأب، فهو كل من تعطيه شدوها وبهجتها،
وهو كل من تجد عنده سكنها وطُمأنينتها، فتكون مصيبتها في فقده أضعاف أمها
وجدتها.
كأن أغلال الكون على عاتقه، يجر
أقدامه المُثقلة خارجا من الزنزانة، صيحات
المساجين تهنئه كأول من يحظى بزيارة خاصة،
تلتقي فيها أجساد كما أرواح، دونما عنابر
الزيارة برازخ الموت تلك، بوده لو غيره مكانه،
فالحمل أثقل من ما مرَّنَ عليه نفسه أشهرا طويلة مضت، وهذا أصعب ابتلاءاته، دقات
قلبه كأنها طبول حرب، وَقِرَبُ الدموع المحبوسة مُذ أُخذَ، كأنها سدٌ يتصدع، يتجلد
للشامتين يُريهم أنه لريب الدهر لا يتضعضعُ
باسم المُحَيَّا يلج
فتصمد الزوجة مودةً، وتبكي الأم
رحمة، وتنحب البراءة باكية
ويح زجاج عنابر الزيارة
ويحه ... كم كتم خلفه هدير مشاعر صاخبة
ويحه ... كم خدعه بأنه صابر
يتمنى أن كل
زجاج الأرض بين يديه يتقي به الربيع
فقد اعتاد الخريف مُذ عُزل
ولا قبل له بالزهراء وقد حضنها بين
ذراعيه، يتماسك، وأعين الشُرَطِ التي كانت تراقب الربيع خوف أن يمرر له من خارج
السجن زهرة ، وتطيل النظر إليه مهابة أن يُضيىء للظلام خارج السجن شمعة ، بكت، بكت وهي
تنظر الابنة بين ذراعي الوالد، الجمع يذرف الدمع بسجانيه ومسجونيه وزائريه، صمد
وصمدت الزوجة، إلإ أن ترقرق الدمع في عينيها وضعه على الحافة، فكاد ينهار، وكيف له
ذلك، وهو الشجرة وهم المستظلون، وكيف للروح
أن تطوف بالجسد إن سقط، وكيف لمن تحت قدميها جنات السموات والأرض
أن تطمئن إن تَصَدَّع
كظم وكادت عيونه تَبْيَضّ ... فأمسك
فتنزلت رحمة السماء
وعبر القنطرة
حدث في 28/5/2016
وكتب في 8/1/2018