السبت، 28 أكتوبر 2017

نَظَّارتي الجديدة



بسم الله والصلاةوالسلام على رسول الله
أتلمس طريقي في مستشفى الجامعة - متذكرا غوار الطوشة (دريد لحام) في مسرحية غربة، يوم أخبر الحكيم (طبيب العيون) أهل الضيعة أن عندهم طول نظر، فطفقوا كالعميان مع غوار يتحسسون طريقهم بالنظارات السوداء، فبعد النظر يُعتبر عَمَىً عند الكثير من البُسطاء والمساكين -  فقطرة توسيع الشَبَكِيَّةَ وما رافقها من فحوصات، أعطتني دليلا قطعيا على ما أحاول التعامي عنه من أني كبرت وبلغت سن الخمسين، مما استدعى ابني - الدكتور إلا شحطة في مستشفى الجامعة - التدخل ومرافقتي في رحلة العودة إلى قواعدي في البيت سالما إلى أن ينتهي تأثير قطرة توسيع النظر.
لبست النظارات بعد أن جهزها لي مركز العدسات المختص مُهَنِئاً إياي بطول النظر متمنيا لي عمر مديدا، ركبت السيارة عائدا ألى البيت متفاجئا من منظر ال (HD) الذي ظهرت لي فيه الدنيا، فقد ذوى نظري تدريجيا منذ سنوات، وظننت أن ما كنت أراه في سالف الأيام هو المنظر الطبيعي للأشياء بخلاف واقعها الحقيقي، كحال الذي تذوي عنده القيم والمعايير تدريجيا ولا يكتشف أنه تنازل عن الكثير منها إلا إذا أنعم الله عليه بطول نظر جديد وجلاء بصري من حديد، يرى فيه الحق حقا والباطل باطلا.
 رآني أحدهم بشكلي الجديد فأخبرني أني لستُ جميلا  بالنظارات، لم آبه برأيه، فبعد النظر الذي أتمتع به الآن بعد بلوغي الخمسين، ووضوح الرؤية، أعتبره فضلا من الله أستغني به عن رأي الناس بشكلي الذي خالف آراءهم الموروثة.
 زوجتي العزيزة أم طارق كانت ثاني من رآني بحلتي الجديدة، ما لبثت أن علقت عليها بعد نقاش سياسي عابر قائلة : لقد ازددتَ حكمة بالنظارات. لم أعرف قصدها في البداية، فما دخل لبس النظارات بالنقاش السياسي ؟ ومع أن فلتات لسانها لاحقا بينت لي أنها رأتني بالنظارات أكبر من عمري الحقيقي بعشر سنوات، ولكن خلقها الرفيع عبر عن ذلك بألطف عبارة حتى لا تجرح مشاعري فأسمته (حكمة) ، ورغم فلتة لسانها تلك إلا إنها أَصَرَّت أنها قصدت عين (الحكمة).
الحكمة هي وضع الشئ في موضعه بخلاف الفلسفة التي تعني - بواقع الحال - الضياع في تعريف الشئ والتنطع في سبر موضعه، فلا يُدرك الشئ ولا موضعه، وقد كان لسان حال الإمام الغزالي (حط في الخراج) عندما فَضَّلَ العامة على الفلاسفة في كتابه تهافت الفلاسفة فقال " والبله من العوام بمعزل عن فضيحة هذه المهواة، فليس في سجيتهم حب التكايس بالتشبه بذوي الضلالات، فالبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانةٍ بتراء ، والعمى أقرب إلى السلامة من بصيرةٍ هولاء
لقد وصف الله بداية ضلال الأقوام الغابرة بأنهم " يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا " ، والناس في العادة يخافون مخالفة النصوص المقدسة، إما لورع في صدورهم أو خوفا من الرأي العام، فترى من أراد منهم التفلت سعيا وراء شهوة جامحة أو تقديس عقل أو نصرة قوم وحزب، تراه يحرف كَلِمَ القرآن والحديث النبوي عن مواضعه، مبررا لنفسه ممارسة منكرات الأرض مجتمعة تحت اسم الدين، ومع أن هذه ممارسات منكرة إلا أن الأشد نكرة والأشنع فعلا تسمية ذلك ... حكمة وبعد نظر.
أي حكمة تلك التي يرجوها الإنسان في مخالفة نهج رب العالمين الذي لم ينزله إلا رحمة بهم، وصلاحا لمعاشهم، ونجاة في آخرتهم، لكنه قصر النظر الذي يخافون فيه من العواقب القريبة وينسون العواقب البعيدة متمثلين قوله تعالى " يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ".
رأس الحكمة مخافة الله، ولا تكون هذه المخافة بالجرأة على الله بتحريف الكلم عن مواضعه، فمن أراد أن يعصي الله فليعصيه ثم يتوب من فعله ويعترف بخطأه، أما أن يحلل الحرام ويحرم الحلال ليبرر لنفسه ويريح ضميره، فذاك قصر النظر وتلكم هي النظارات السوداء التي تجعله يرى المنكر معروفا والمعرف منكرا، ففي صحيح البخاري ومسلم: عن حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ "

الحمد لله ...
تلكم نظارتي التي ألبسها، وهذه هي الرحمة التي أمرنا الله بها للبشرية جمعاء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعرف حق المعرفة وأدرك تمام الإدراك أن الكثيرين لا يعجبههم شكلي في هذه النظارات، إلا انه يكفيني منها
نكتة بيضاء تنكت في قلبي الفقير إلى خالقه تنفعني يوم لا ينفع مال ولا بنون
أسأل الله أن أكون وإياكم ممن قال الله فيهم " يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ "
28/10/2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق