مسيرات وذكريات ... وأشياء أخرى
أنتَ ... تَفَضَّلْ إلى اللوح وأجب عن السؤال.
كان ذلك عام 1987 يوم فاجأني
الدكتور صادق حامد في مادة الإلكترونيات في كلية الهندسة، قاطعا بذلك شرود فكري
المستمر من مساء البارحة، عندما تقرر أن تقود كلية الهندسة مسيرة الاتجاه الإسلامي
لهذا اليوم، احتجاجا على زيارة وزير الخارجية الأمريكي جورج شولتز إلى الأردن - تخيلوا،
كانت زيارة وزير خارجية للأردن تستدعي مظاهرة حينها، واليوم يستضيف بعض أبناء
الصحوة الأمريكان في بيوتهم الخاصة - كان
وقع طلب الدكتور كالصاعقة، فأنا حاضر الجسد في قاعة الدرس، لكن ذهني هناك بعد ربع
ساعة من المحاضرة، حيث سنقود مظاهرة هي الأولى في الجامعات الأردنية بعد أحداث
جامعة اليرموك الدامية عام 1985، وكل الاحتمالات متوقعة، في ظل أجواء أمنية مشحونة،
وقفت أمام اللوح المرسوم عليه خرابيش، قالوا لي فيما بعد أنها معادلات وقوانين،
ولم أدرِ ما أقول للدكتور، وهو يلح عليَّ بالإجابة، هل أقول له أني سأكون بعد ربع
ساعة مع مجموعة قيادة المسيرة ملثمين لنخرج من أماكن متفرقة بنفس الثانية - بعد أن
ضبطنا ساعاتنا على نفس التوقيت - مجتمعين
في مكان واحد في كلية التربية لنتوجه نحو برج الساعة معلنين بدء المسيرة،أم أقول له
أي شيء عن الترانزستور والدايود أو حتى فيش الكهرباء، صمتُّ، فأكلت
ما فيه النصيب من البهادل من دكتور مشهود له بالشدة والقسوة.
مسكين فلان - لن أذكر اسمه احتراما لسرية المعلومة وهو من
أصدقائي الحاليين على الفيس بوك وله حرية الكشف عن هويته - يبدو أن ساعته تقدمت عن
الضبط المشترك لساعات قادة المسيرة، فخرج من مخبئه متلثما بالحطة (الشماغ)، وحيدا في بهو كلية
التربية، ظانا فينا الظنون، قبل خُروجنا بدقيقتين، الله لا يضعكم مكانه، شخص ملثم
وحده وسط طلاب كلية التربية، الكل ينظر
إليه وهو لا يدري ما يفعل !!! خرجنا جميعا على التوقيت المحدد، منطلقين نحو برج
الساعة لنكون بؤرة تجمع المسيرة التي انطلقت تشتم أمريكا ومن تحالف معها، لنكتشف
أن البعض منا ربما عادت شتيمته إليه (فكان كشاتم نفسه) بعد عقدين من الزمن عندما
أصبح صديقا إن لم يكن حليفا لأمريكا.
كنا بعد ذلك ليومين
متتاليين إذا رأينا أحدا من الطلاب نقول له بلغة الإشارة " إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا"، فأي كلمة تصدر منك
بصوتك المبحوح تكشف أنك كنت من قادة المسيرة، أما خطأ كلية الزراعة التي وُكِّلَتْ
بمسيرة أخرى لاحقا فقد كان فادحا ومضحكا، يوم كشف أحد قياداتها نفسه بطريقة طريفة،
فقد كان الهتاف الرئيسي في المسيرة هو (الله أكبر) ، يهتف قائد المسيرة عبر مكبر الصوت
(تكبير)، فيردد آلاف الطلبة خلفه بصوت واحد (الله أكبر). ذهب صاحبنا بعد المسيرة
إلى مصلى كلية الزراعة بعد أن خلع لثامه
وغيَّر ملابسه وعاد طالبا عاديا، فقدموه لصلاة العصر إماما، وبدل أن يبدأ الصلاة
بقوله (الله أكبر) سبقه لسانه وقال (تكبير)، والباقي عندكم، فقد تفرق جمع المصلين خلفه
بين ضاحك وخاشع وربما خائف أو هارب.
ومن طرائف شأن المسيرات هذه، أن قيادة الحركة
الإسلامية أوكلت إلينا في كلية الهندسة ذات يوم مهام تنظيم مهرجان خطابي مُباغت في
مسجد الجامعة الأردنية بعد خطبة الجمعة، وكنتُ ضمن الفريق المختص بمنع خادم المسجد
من قطع الكهرباء عن مكبرات الصوت بعد الصلاة كعادته، وبعد دراسة تحركات الخادم في
الجمع السابقة، وجدنا أنه كان يُشَغِّلُ المكبرات من غرفة في مؤخرة المسجد، ثم
يقفلها بالمفتاح ويذهب إلى الصف الأول لحضور الخطبة، ثم يعود بعد انتهاء الصلاة
ويقطع الكهرباء عنها، كانت خطتنا تقتضي وضع عود ثقاب داخل زرفيل باب غرفة الصوتيات
بعد مغادرة الخادم لها إلى الصلاة، وعند عودته فإنه لن يستطيع إدخال المفتاح في
الزرفيل، فتبقى الغرفة مغلقة، والصوتيات شغالة حتى انتهاء المهرجان الخطابي.
سارت الأمور على ما يرام، وتموضعنا في مواقعنا
بجانب الغرفة، وما أن غادر الخادم إلى الصف الأول، حتى نفذنا المطلوب بطريقة
احترافية، ووضعنا عود الثقاب داخل الزرفيل، وما أن انتهت الصلاة حتى بدأت التكبيرات
تصدح في أرجاء المسجد معلنة بدء المهرجان، وتقدمت قيادات الحركة الإسلامية إلى
مكبرات الصوت لتخطب، فهرع الخادم - خائفا على وظيفته ورزق عياله - إلى غرفة
الصوتيات لقطع الكهرباء، ونحن ننظر إليه بغرور المنتصر، لنكتشف أنه لم يغلق غرفته بالمفتاح
ذلك اليوم، ففتح الباب وقطع الكهرباء ونحن ننظر إلى بعضنا البعض بذهول، وقد فشلت
خطتنا ولم يكن لدينا خطة بديلة.
ذكريات راودتني وأنا أتابع مسيرات الجمعة،
وهبة الأمة للدفاع عن قدسها، معترفا بتقصيري تجاهها، متمنيا لها النجاح بتحقيق
هدفها، مترحما على شهدائها، متسائلا : هل الهدف هو إلغاء قرار ترامب ؟ وإن تم ذلك،
فهل نتوقف عن المسيرات بعد إلغاء القرار ؟ وكأننا حينها نقول للعالم : لا مشكلة
لدينا أن تكون تل أبيب عاصمة إسرائيل، ولا مانع لدينا من بقاء فلسطين تحت
الاحتلال، وسنكتفي بحل الدولتين، وبالقدس الشرقية عاصمة لنا، فنكون بذلك سرنا
بالمسارات المرسومة لنا سلفا، وبقيت فلسطين كل فلسطين تحت الاحتلال، وكان نجاحنا
المُتوهم هو نجاح عدونا.
إن أخطر شيء في مسار حركات التحرر هو مرور
الوقت وتبدل الأجيال، فتصبح مسلمات الأمس منكرات اليوم، فشعار فلسطين من البحر إلى
النهر غاب مؤخرا عن أغلب شعارات وبرامج حركات التحرر، وأصبحت مشكلتنا الحالية هي
اعتراف ترامب أو عدم اعترافه، والذي بحقيقة الحال لن يغيِّر شيئا على أرض الواقع.
وعودة إلى واقعة الدكتور صادق حامد عام 1987، فلا زلت محافظا
على ميثاقي الغليظ مع طالبة كانت حاضرة في الصف ذلك اليوم، شاهدة على حدث البهدلة المشؤوم، (كاشفة البير وكاشفة
غطاه)، لم أكن أعلم يومها أنها ستكون بعد عدة سنوات ... أم طارق زوجتي العزيزة، كما
أني أسعى جاهدا أن يكون موقفي من أولبرايت
وباول و كوندوليزا رايس
وكلينتون وكيري وتيلرسون الآن، كموقفي من جورج شولتز عام 1987، لا أُغيِّر كمحسن
عبد الحميد وراشد الغنوشي، وستبقى تل أبيب عند عامة المسلمين - وأنا منهم - إسلامية
يطالبون بها قبل القدس، ولن تغيَّر الأيام شعارهم الخالد فلسطين إسلامية من البحر
إلى النهر.
16/12/2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق