شاورما صاج
فاجأني الأولاد ليلة البارحة بهدية، حذاء رياضة نوع أديدس، فقد
عُدتُ للمشاركة في لعبة كرة قدم عريقة عمرها ما يقارب الثلاثين سنة، حيث كنا
مجموعة من طلبة الاتجاه الإسلامي في كلية الهندسة، نجتمع (مُتَخَفِّينَ) صباح كل
يوم جمعة في منتزه عمان القومي، نمارس رياضة كرة القدم كتربية بدنية، استعدادا لحُلم
أُستاذية العالم، ثم نُتبع ذلك بفطور (حمص وفول) نحضره معنا من مطعم الأمانة في
البلد، نُعَوِّضُ به ما فاتنا من طاقة (كالوريات) حرقناها كرمال عيون معركة الأمة
المُنتظرة.
استمرت اللعبة ليومنا هذا، غاب عنها وجوه قديمة تُوفَّي
بعضها رحمهم الله، ومنهم من ينتظر أطال
الله في أعمارهم، ووفد عليها وجوه فاضلة جديدة، وكان لا بد لمواكبة عودتي الميمونة
إلى الملاعب، من حذاء جديد، فكانت هدية الأولاد بوط أديدس (هاي نيك) أصفر كبوط
ميسي، ورغم أن الحذاء من النوع السَّرِيع والهَدِّيف، إلا أن (القالب غالب)،
فاللاعب الماهر بعمر العشرين سنة غير الختيار الفَكَّيح بعمر الخمسين سنة، والسبب
الأهم الكرش الذي عاد للتدلي من جديد.
استقبلني الأولاد في البيت صباح الجمعة مستفسرين عن المباراة
وعن الأهداف التي أحرزها الحذاء الجديد؟؟ فكانت الخيبة أن البوط الأصفر لم يحرز
إلا هدفا واحدا !! قرأتُ الحزن على وجوههم، فهم كالعادة سيستخدمون البوط عند
اللزوم، كما يستخدمون عطري الخاص عند اللزوم أيضا، رغم كثرة أحذيتهم وعطورهم، دأب
الأبناء مع الآباء منذ القدم، وهذه الأخبار مقلقة لهم إن اضطروا للعب مباراة كرة
قدم بهذه البوط سيء السمعة.
وبصفتي الأب الحنون فقد قررت أن أُعيد للبوط هيبته الكروية، ومكانته التي تتناسب على
الأقل مع سعره الباهظ ، ولن يكون ذلك إلا بالتخلص من الكرش، واستعادة اللياقة من
أجل إحراز العدد الأكبر من الأهداف، فقررت البدء بالرجيم من الغد، وكما هو معلوم
عند أصحاب الحميات الغذائية، فإن الليلة التي تسبق الرجيم هي (ليلة الجائزة) أو
يمكنك تسميتها (العشاء الأخير) حيث ينتقم
العازم على الرجيم من الرجيم سلفا، فلا يترك شيئا إلا وأكله، ولا عصيرا إلا
وشربه، ولا شيئا بنفسه إلا وفتك به، استعدادا للمجاعة القادمة.
أرادت أم طارق السهر عند أخيها الليلة قبل سفره غدا، وكانت
مترددة حتى لا تتركني في البيت وحيدا
حزينا، بينما أنا أشجعها للذهاب عنده مزاودا عليها أني أضحي من أجلها؛ حتى أستكمل
مشروع (العشاء الأخير وليلة الجائزة) ضمن نطاق الممنوعات المحرمة عند آل العقاد،
فمثلا، هم على قناعة أن الأندومي مصنوع من (أظافر الدجاج)، وأن السنيورة ملونة
بعصارة (الدودة القرمزية)، وأن الشاورما مصنوعة من لحم (الكلاب والقطط)، وأشياء
كهذه وتلك، ثقافة سائدة موروثة لا نملك نحن آل التل حيالها أي شيء، نجحت أخيرا بإقناعها
الذهاب من باب صلة الرحم، فتمثلتُ قول الشاعر
خلا لكِ الجو فبيضي واصفري * ونقِّري ما شئتِ أن تنقِّري
وما أن غادرت أم طارق وفاطمة البيت،حتى تسللت متخفيا وركبت السيارة شادا الرحال نحو شارع المدينة المنورة،
باحثا عن محل (شاورما صاج) حيث كان يُهَرِّبُ الأولاد - أحيانا - بعض الوجبات منه دون علم السلطات العليا، وبعد
عناء؛ عثرت عليه وطلبت وجبة شاورما لحمة، فأخبروني أنها ستجهز بعد ربع ساعة، ويا
لها من ربع ساعة، تَلَفَّتُ بها عشر مرات يمنا وشمالا، خوف أن تَمُرَّ أم طارق
وتشاهدني وأن أشتري الممنوعات، واقترف المحظورات.
أدهشني مستوى الخوف من
أم طارق، واكتشفت أني من القيادات المرعوبة حسب وصف رئيس الوزراء الأسبق عبد
الرؤوف الروابدة، لكن الذي أدهشني أكثر من ذلك هو الحوار الدائر بين الشباب الواقفين
أمام المطعم ينتظرون وجباتهم، أرخيت السمع لكلام العامة كعادتي، متلمسا قياس ما
وصل إليه حال شبابنا هذه الأيام، ومُتتبع مستوى اهتماماتهم على اعتبارهم عينة
عشوائية غير مخطط لها.
أيُعقل أن فرق الثلاثين سنة الماضية وصل بنا إلى هذا الحال ؟
وهل أصبحت الدراية بكمية المايونيز والكاتشب في وجبات المطاعم
هي معلومات يتفاخر بها شباب بعمر الورد ؟؟!!
طار الخوف من عيني ونسيت أم طارق وقوانين آل العقاد وأنا أتابع
تفاصيل النقاشات، متحسرا على جيل كان قديما بكافة اتجاهاته؛ له أهدافا محددة
وتصورا لما يريد من الحياة، مقارنة بجيل هذه الأيام، صحيح أن هذه عينة عشوائية لا
يمكن بناء حكم عليها، ولكنها في النهاية تُعطي مؤشرا لحال الأمة التي تُذبح من
الوريد إلى الوريد وتُنتهك أعراض نسائها في سوريا المقاومة والممانعة على مرأى
ومسمع مليار ونصف مسلم.
وهل سيُغني عنا في تحقيق أهدافنا، لبس حذاء ميسي الأصفر إن كان
القالب غالب، وكنا دون مستوى مهارة التهديف المطلوبة ؟ كثيرا ما نلبس ثوب الشجاعة
ونحن أفقر الناس إليها، ونتزيَّنُ بزينة العلم ونحن أجهل الناس به، ولم تعد مشكلة
الأمة في عامتها ورعاعها، بل انتقلت إلى الخاصة منها، أصحاب الأهداف العليا
المفترضة، فهل عاد (مثلا) أفراد الجماعات الإسلامية يفكرون بالأهداف العليا من
أستاذية العالم بنشر التوحيد والعدل والرحمة التي جاء بها الإسلام ؟؟ أم اكتفينا بالمنجزات والمغانم الجزئية وأصبحنا ندور في
فلكها وتحولت عندنا من وسيلة إلى غاية ؟
أسئلة كثيرة دارت بذهني في الربع ساعة التي وقفت بها أمام مطعم
(شاورما صاج)، فقررت كتابة مقال بذلك، فعدت سريعا إلى البيت والتهمت الوجبة على عجل
ووجل، وأخفيت آثار الجريمة وبدأت بكتابة هذا المقال باسترخاء على اعتبار أن أم
طارق ستسهر مع أخيها ولن تعود مبكرا، فتفاجأت بها تفتح الباب وقد عادت دون سابق
إنذار، حاولت التظاهر أن كل شيء طبيعي وأخفيت الارتباك الذي تملكني وأنا مطمئن أن
مسرح الجريمة نظيف تماما، إلا أن علبة البطاطا التي أبقيتها للنقرشة كشفت المستور.
-
مين جايب
وجبة على البيت ؟؟؟
وتحت وطأة المفاجئة، وخوفا من العواقب، اضطررتُ لتفعيل كل معلوماتي
الشرعية، واستخدام كل أساليب التسلل عن النص الذي يُحرم الكذب، ولجأت إلى قاعدة
(المصالح المرسلة) التي يستخدمها كل من أراد أن يُطَوِّع الشرع لمصالحه ومصالح
حزبه، متناسيا قوله تعالى "وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ
يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا" اتهمت
ابني عماد أنه هو من أحضر الوجبة، فدرء المفاسد أولى من جلب المصالح.
فلا تنسوني من الدعاء، لعل أم طارق تنسى سؤال عماد عن الوجبة
عند عودته للبيت
اللهم إنا نسألك لطفك وعفوك
ليلة الجمعة
3/8/2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق