هذا مقال قديم غير مكتمل كتبته
عام 2017 تحت عنوان (كشافة خالد بن الوليد) ولم أنشره حينها، أنشره اليوم مع بعض
الإضافات مستذكرا أياما جميلة مع منذر الزميلي رحمه الله.
جرجرني الوالد حفظه الله وأطال
عمره (المقال كُتب قبل وفاة الوالد) إلى مجموعة خالد بن الوليد الكشفية جرجرة، بعد
أن فشلت محاولاته السلمية بإقناعي دخول السلك الكشفي، فطريقة القدماء الناجحة في
تربية المراهقين هي؛ إقناعهم أولا، وإجبارهم على ترك سبيل الهمالة وسلوك سبيل
الهداية وضربهم بعد العاشرة على الصلاة إن هم تمردوا ثانيا.
هذه الطريقة كانت مجدية أكثر من
طريقة المحدثين في ترك الحبل على الغارب للمراهقين وقد أحاطت بهم سُبل المنكرات
ودوافع الشهوات تحت عنوان ووهم (الحرية).
تلقفني هناك ثلة مباركة من القادة
الكشفيين أخص منهم بالذكر عيسى الزغل ومنذر الزميلي فقد كان لهما فضل كبير على
نشأة ذلك المراهق (حضرتي)، فاستثمروا طاقتي وسخروها في طرق الخير، محققين بذلك
آمال والدي الحبيب بأن يراني على الصراط المستقيم.
من عادة القادة في الأمم المهزومة
التقدم عند المغانم والتأخر عند المغارم، فأحَلُّوا بذلك قومهم دار البوار، بخلاف
هدي وسنة وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يتقدم إذا حمي الوطيس ويتأخر عند
لعاعة الدنيا، دأب قادة الأمم وصُنَّاع التاريخ وكتبته، فإن رأيت العالم والمفكر أو
القائد والسياسي متقدما عند أبواب
السلاطين وضجيجه ملأ الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي ثم لا ترى له أثرا ولا تحس له ركزا في ساحات الوغى ومواطن الشجاعة
والإقدام فاعلم أنه مجرد ظاهرة صوتية وبالون اختبار ما يلبث أن يخبت صوته ويذهب ريحه، فلا تَغْتَرَّنَّ بكثرة التصفيق
وبريق الأضواء فإنها تصمّ الآذان وتعمى الأبصار.
كان لمنذر الزميلي من تلك الصفة قبس
شعر به من كان قريبا منه، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر حادثة كسر كتفه يوم أصرَّ
أن يكون أول من يجرب الانزلاق على البكرة المربوطة بحبل بين شجرتين عاليتين في مخيم
دبين الكشفي قبل أيّ فرد من الكشافة يوم تم رفع مستوى التحدي إلى شجر أعلى ومسافة
أطول، فكان أول من تقدم حرصا منه على سلامة من هم تحته من الأفراد، فكان أول وآخر من
جربها بعد أن دفع ثمن ذلك كتفا مكسورا. يحضر إلى المخيم قبل الأفراد ويتأكد من
سلامة كل شيء ثم يمسك عصاته الكشفية ويُحَوِّط بها المخيم بالآيات والأذكار
الواردة والثابتة عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حرصا على سلامتنا ووقاية لنا
من الحيات والعقارب والخنازير البرية والضباع.
تعلمنا في تلك الفترة الشجاعة
والإقدام وتربينا على الرقائق والإيمان يطلب منا منذر الزميلي أن نطفئ كل أنوار
المخيم ويذهب كل واحد منا ويجلس تحت شجرة منفردا في الظلام الدامس المرعب، ويقول
لنا تذكروا القبر فهذا حالكم هناك، وحدة وهدوء وظلام وسكون، ومن الطرائف التي حدثت
معنا ذات مرة أنه وبعد انتهاء فقرة (تذكر الموت في الظلام) وبعد أن جمعنا القائد
منذر وقام بالتأكد من أعدادنا تبين فقدان أحد الأفراد، فأُعلنت حالة الطوارئ وأخذ
المخيم كله يبحث عنه، وسرت شائعة تقول أنه (ضُبِعَ) أي رشّه الضبع ببوله وسيطر
عليه فتبعه إلى كهفه (حسب خرافات تلك الأيام) وبعد بحث طويل تبين أن ذلك الفرد بدل
أن يتفكر في الموت في الظلام فقد غط في نوم عميق تحت شجرة بعيدة ولم يسمع نداء
الجمع.
كان للقائد منذر الزميلي طريقة
بديعة في اكتشاف القدرات القياديّة لدى أفراد الكشافة، حيث يعمد إلى تنظيم دوري للكرة
الطائرة، وبدل أن يعتمد كابتنا واحدا للفريق، لجأ إلى مداورة قيادة الفرق بين
الأفراد، وبينما كُنّا نستغرب منه هذا التصرف الذي يؤثر سلبا على أداء الفريق، كان
هو يجلس جانبا يراقب طريقة الكابتن في إدارة الفريق، كيف يُنظّمهم، كيف يُحمّسهم،
كيف يبعث فيهم الأمل، كيف يتعامل مع الراضي والحردان منهم، ليخرج بعد ذلك بقائمة
خاصة به يُميّز فيها التابع من المتبوع والقائد من المقود، ثم يستثمر فيهم كلٌ حسب
قدراته، مما جعل تلك الحقبة الزمنية من قيادة منذر الزميلي بالإضافة لعوامل أخرى
من الحقب الذهبية في تاريخ مجموعة خالد بن الوليد الكشفية.
ويبدو أن أبا الحباب (منذر
الزميلي) لسوء حظه أو لحسنه - لست أدري - اكتشف أن حضرتي وحضرة الدكتور (م.ن)
-الذي خرج إلى أمريكا طالبا للعلم ولم يعد بعد- من تلك القيادات الشابة الموعودة
فصدَّرنا وسوَّدنا، وهو لا يدري أنه وضع البنزين بجانب النار.
لقد كنت أنا و (م.ن) من أعز الأصدقاء،
ولكن التنافس بيننا كان مستعرا بصفتنا أقرانا، ولا أذكر أن الحرب بيننا وضعت
أوزارها إلا نادرا، وقد انعكس ذلك على المجموعة الكشفية وجلب لأبي الحباب وجع الرأس.
واحدة من تلك المعارك كانت في
مسير كشفي، كنّا خمس طلائع، وكانت المنافسة شديدة بين طليعتي وطليعة الدكتور (م.ن)
كالعادة؛ مَنْ يصل إلى الهدف المجهول أولا؟ اعتمادا على الخرائط والألغاز
والبوصلة، حرثت على طليعتي حراثة، ولم أترك
لهم مجالا للراحة، متأكدا أن طليعة (م.ن) خلفي، وصلتُ وطليعتي الوجهة النهائية
-مخيم دبين الكشفي- بعد عدة ساعات من المسير لأجد حضرة (م.ن) وطليعته التي تركناها
خلفنا "يتبرطعون" ويشربون الماء، بعد أن فتح آخر رسالة من رسائل المسير
الكشفي قبل أوانها (الرسالة الاحتياط لمن يضل عن الطريق) بعد أن ضاع هو وطليعته في
أحراش دبين، عرف الوجهة النهائية ، فوصل إليها بطرق مختصرة وملتوية غير ملتزم بخط
سير الرحلة، ولم يهدأ غليان الدم في رأسي إلا بعد أن نال حضرة الدكتور (م.ن) حظه
من العقوبة على يد منذر الزميلي.
تعلمنا من حادثة (م.ن) أن الغاية
لا تبرر الوسيلة، وأن الميكافيلية مبدأ خاطئ، وأن السبل الملتوية مصيرها الفشل، وتعلمنا
هناك احترام الكبير والعطف على الصغير، اكتسبنا المهارات وتعلمنا القيادة، القيادة
الميدانية المحفوفة بالتحدي والمخاطرة لا قيادة دورات (صناعة القادة) التي تعقد في
فنادق الخمس نجوم بتكاليف خيالية.
أما هذه الأيام -للأسف- فقد انعكست القيم، وأصبح
الولد رب والده، والأَمَةُ ربة والدتها، وتحت عنوان الحرية نشأ جيل لا يعرف معروفا
ولا ينكر منكرا، فاختلت المعايير وسادت الرويبضات، ولم يتوقف الأمر عند (الغاية
تبرر الوسيلة) بل أصبحت الوسيلة هي الغاية يُطبّل لها مجموعة من المبررين
والمسوغين. وأصبح القادة هم الأعلى صوتا والأكثر "فهلوة" لا الأكثر
إقداما وتضحية.
ليث التل
مقال قديم كُتب جُلّه عام 2017
ونشر في 4/4/2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق