السبت، 27 أبريل 2024

إيجابية عزيزة "ابن تيمية نموذجا"

بسم الله الرحمن الرحيم

إيجابية عزيزة (ابن تيمية نموذجا)

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

إنه لمن سنن الأنبياء والمرسلين الفعل بعد القول فلا إيمان بغير تصديق وتصديق الإيمان هو الفعل، لأن الكلام على أهميته أسهل بمراحل من تحويله إلى فعل، ويكون هذا الفعل على وجهين، وجه إيجابي (الحض) ووجده سلبي (الامتناع)، فهذا رسول الله وجدوه الصحابة وقد شد على بطنه حجرين لمّا دعاهم للصبر وتحمل الجوع أثناء حفر الخندق، وهو كذلك لا ينهاهم عن أمر حتى يكون هو أو من يمتنع عنه، ولم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية إلا تلميذاً نجيباً للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قيل فيه "ما رأينا في عصرنا هذا من تُستجلى النبوة المحمّديّة وسنتُها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل بحيث يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة" وقد كان من تجليات هذه السنة النبوية فيه أنه لا يكتفي بلعن الظلام بل يبادر إلى إشعال الشمعة.


كان نهجه متميزا متفردا في علمه وفي رده على خصومه فتراه عندما يجادل عن الحق الذي اقتنع به لا يكتفي بما يقوم به أغلب العامة وبعض العلماء من الرد على الفكرة المنسوبة لشخص بعينه، بل كان منهجه أن يتأكد ابتداء أن هذه الفكرة أو المقولة المنسوبة إلى صاحبها هي على الحقيقة فكرته وقوله، فيعود إلى صاحبها مباشرة ويتأكد منه شخصيا أنه قائلها، وإن تعذر عليه الالتقاء به وجهاً لوجه كان يعود إلى كتبه أو إلى من يشهد أن هذه الفكرة فكرته وهذا الرأي رأيه، ثم هو بعد ذلك يعمد إلى ضبط المصطلحات بينه وبين خصمه، لأن قدرات الناس في التعبير عن آرائهم متفاوتة وقدراتهم اللغوية متباينة، فربما قصد المرء رأياً وعبر عنه بعبارة بعيدة عن المضمون الذي عناه، فكان شيخ الإسلام يعمد إلى توحيد المصطلحات بينه وبين خصومه ويحرر محل النزاع بينهما فتكون أرضية النقاش والحوار والردود واحدة، وهذا لعمري منهج الأنبياء في تحري الدقة والبعد عن ظلم الآخر بسبب سوء فهم هنا أو اختلاف دلالته هناك، ثم هو يتوج ذلك كله بفرادة ميزته عن كل من كان من خصومه أو حتى من كان في صفه في رد الشبهات ودحض والضلالات؛ إذ لا يكتفي برد الشبهة أو إبطال الفكرة أو نسف المنطق المقابل بالحجة العقلية وبالدليل الشرعي، ولا يتوقف عند لعن ظلام هذه الشبهات بل هو ينتقل من السلبية إلى الإيجابية ويقدم بين يدي النقاش أو الحوار أو حتى الخصومة، يقدم الرأي الصحيح والبديل المقبول الذي يجب أن يكون عليه خصومه، فيفتح لهم بذلك المخرج مما هم فيه بدل أن يحشرهم في زاوية لا مخرج منها إلا العناد والإصرار على الباطل. 


تجلى منهج ابن تيمية الإيجابي في مناحي متعددة من حياته العلمية والعملية، وتبدى ذلك واضحا في جهاده ونهيه عن المنكر وفي علاقاته مع العلماء والسلاطين كما هو بائن في كتبه وتواليفه ومصنفاته، فتراه في حادثة عساف النصراني الذي شتم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتف بإنكار هذا المنكر بل بادر بالذهاب إلى نائب السلطان في دمشق وطالبه بالتصرف حيال هذه القضية الخطيرة بل بعد ذلك وعلى الفور قام بتأليف كتاب (الصارم المسلوم على شتم الرسول) الذي سيكون لاحقا مرجعا للأمراء والمسؤولين في التعامل مع الحالات المشابه.


وقد شهدت فترة ابن تيمية اجتياح التتار لبلاد الشام، فلم يكتف بعمل دروس وميعاد للجهاد في المسجد الأموي والتحذير من خطر التتار بل بادر بالعمل الإيجابي الذي يكون فيه قدوة للناس فتراه يتجول على معسكرات المسلمين يحضهم على الجهاد والثبات وذهب إلى نائب قلعة دمشق وأقنعه بعدم تسليم القلعة للتتار لما سقطت دمشق مما كان لهذا الموقف الأثر الكبير في استعادة دمشق، كما أنه ذهب بنفسه إلى سلطان التتار قازان في محاولة منه لأخذ الأمان لأهل دمشق حيث عرض عليه قازان الانضمام إليه مقابل مغريات كبيرة لا يصمد أمامها إلا القليل ليس أقلها أن يعينه رأيسا على مدينة حران مدينة ابن تيمية أو أن يكون من خاصة خاصته لما رأى مخايل الذكاء واضحة عليه، كما أنه ذهب لمقابلة بولان قائد جيوش التتار خارج دمشق واستنقذ منه أسارى المسلمين الذين كانوا في معسكره، ولمّا حانت لحظة الحقيقة ووصلت الأمور إلى نهايتها باصطفاف الجيشين؛ جيش التتار وجيش المسلمين بقيادة السلطان الناصر محمد بن قلاوون الذي قرر الدخول في المعركة بعد أن شد ابن تيميه رحله إليه في القاهرة واقنعه بالمشاركة في المعركة بعد ان انسحب بن قلاوون من المواجهة، وعندما حمي وطيس معركة مرج الصفر (شقحب) كان ابن تيمية على رأس المتطوعة الذين حضهم على الخروج وملاقاة جيش التتار في سهل شقحب جنوب دمشق، عندها ذهب شيخ الإسلام إلى قائد جيش المسلمين وطلب منه أن يدله على أخطر مكان في المعركة (موقف الموت) ووقف فيه وقاتل هناك التتار قتالا يخرج العالم أو الداعية عن كونه مجرد ناه عن المنكر أو آمرا بالمعروف بل ترك تلكم السلبية التي تسقط الأعلام والمشاهير عند ساعة الحقيقة فرفعته إيجابيته إلى مصاف العلماء العاملين فدخل بعد النصر إلى دمشق وهو سلطان المسلمين غير المتوج.


أما موقفه من الأصنام التي كانت تعبد من دون الله مثل - صخرة النارينج، وقدم النبي، والعمود المخلق في دمشق - والتي لم يقدر على هدمها كبار العلماء والأمراء خوفا من تعظيم الناس لها كان لابن تيمية موقف مغاير إذ ذهب إليها مع أخيه شرف الدين ومع تلاميذه وحطمها، فكان هو استجابة دعاء الإمام محي الدين النووي الشافعي الذي دعاه قبل 28 سنة "اللهم أقم لدينك رجلاً يكسر العمود المُخلّق، ويخرب القبر الذي في جيرون".


سجن ابن تيمية سبع مرات، ولم يكن ذلك ليقعده ويحبطه بل كان في كل مرة يحول السجن من محنة إلى منحة بإيجابية عجيبة، فتارة تراه يعتبر السجن خلوة له مع الله ومع نفسه وتارة يكون وقتا للتأليف والتصنيف وفي كثير من الأحيان كان يحول السجن إلى دكة للتدريس وتعليم السجان قبل تعليم السجين، وكم هدى الله على يديه ممن هم من أرباب الجنايات من المساجين، وله مقولة مشهورة يقول فيها " أنا إن قتلت كانت لي شهادة وإن نفوني كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص دعوت أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان لي معبدا، وأنا مثل الغنمة كيفما تقلبت، تقلبت على صوف" فكان حاله ودأبه أن يحول السجن والنفي والابتلاءات إلى فرص تخرج به بأفضل ما يكون، وقد قرأ على تلميذه ابن القيم يوم أحضروه لكي يسجن معه في سجن القلعة في دمشق في حبسه الذي مات فيه واستمر ما يقارب ال 17 شهر قوله تعالى: "فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ".


أما في مجال الحكم وفي علاقته مع السلطان الناصر فبالإضافة إلى نهيه عن كل منكر  كان السلطان أو نوابه يمارسونه، كان حريصا دائما على النصح وإعطاء الحلول الإيجابية والمبادرة فيما يؤدي إلى صلاح البلاد والعباد سوء كان ذلك يتعلق بالفتاوى الخاصة بأمور الحكم أو الحض والتحريض والقتال بالنفس مع السلطان ضد العدو والوقوف بجانب السلطان في المحن التي تعرض لها لما كان مظلوما واغتصب ملكه، والأهم من ذلك كله أنه صنف كتاب (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) وقدم فيه ما يصلح فيه أمر الحكم، وقدم كتابه هذا للسلطان، كما أنه كان يطالب السلطان بعزل من كانت كفاءته وأمانته دون المستوى المطلوب من الأمراء، وكان دائم الترشيح للسلطان بمن هم من أهل المسؤولية ومن هم من أهل النجدة والشجاعة حسب ما كانت الأحداث تقتضيه، وكان السلطان يستجيب له في ذلك لما رأى من حرصه وسداد رأيه.


هذه الأفعال وغيرها مثل مخاطبة حاكم قبرص بشأن أسارى المسلمين عنده من أجل التخفيف عنهم فاستجاب له حاكمها وبنى للمسلمين عنده في قبرص جامعاً؛ كل هذه الأفعال تصغر على أهميتها أمام إقدامه بعد أن أعد نفسه بالعلم والعمل وأصبح أهلا للاجتهاد.


إعداد ليث التل

في 20/3/2024

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق