الثلاثاء، 1 أكتوبر 2024

في رثاء السيد


 في رثاء السيد



مخيم المواصي 2024
كانت تلعب بدميتها المهترئة في مخيم المواصي تستظل بغطاء ممزق كان من الأشياء القليلة التي حملها والدها على ظهره لمّا نزحوا من خان يونس للمرة الثالثة، صنع منه شيئا أمكن بصعوبة تسميته خيمة، لا يقي من حرّ وقيظ ولا يحمي من برد وشتاء كما أنه لم يحمها يوم هبط عليها من السماء عشرات الأطنان من المتفجرات بحجة قتل مطلوب للكيان مرّ من جانب خيمتها، فوجدت نفسها تحت الأنقاض تلفظ أنفاسها الأخيرة فنادت بصعوبة (يا الله ... يا الله).
امتدت إليها يد طفلة سورية من غوطة دمشق على مُحيّاها آثار غاز السارين وقالت لها: "لا تحزني يا حبيبتي ولا تجزعي، إنما هي لحظات ثم ترين معي ما أرى". فردت عليها: "لا أرى شيئا إنما هو ظلام دامس". فمسحت جبينها المعفّر بالتراب وقالت لها: "ردّدي معي (يا الله يا الله ما إلنا غيرك يا الله)". سحبتها من الظلام فإذا هي في جنات ونعيم تجري من تحتها الأنهار يُنادي عليها صوت اشتاقت إليه منذ أشهر خلت "ماما ... ماما". حضنتها أمها، قبلتها، ضمتها، طارت بها وهبطت، غنت لها ورقصت: " حبيبتي بُنيّتي، الحمد لله الحمد لله، أين بابا يا حبيبتي؟". فأجابتها: " لم يكن في المخيم حين قصفوه يا ماما". فردت أمها: "ما الحياة الدنيا إلا طرفة عين يا صغيرتي ثم يلتم شملنا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دمشق 2013
- "هل أحضرتم الغاز؟" يسأل مندوب بشار.
- "نعم وصلت الشحنة من إيران عبر مرفأ بيروت" يجيب مندوب حزب الله.
- "هل حسمتم القرار؟ فاستعمال الكيماوي سيقيم الدنيا علينا ولا يقعدها، والمكان المستهدف في الغوطة الشرقية خالي من المقاتلين " يسأل مندوب سيادة الرئيس.
- "الأمر حسم ولا مجال للتردد، فسكان هذه المنطقة هم من أهالي المقاتلين، وبغير هذا سَيُبَيِّتُونكم في دمشق على أبواب قصر الشعب، فهل يريد سيادة الرئيس بشار ذلك؟" يجيب مندوب المرشد آية الله خامنئي.
- "طبعا لا". يجيب مندوب سيادة الرئيس.
- "ثم إن سماحة المرشد الأعلى رتب الأمور على الصعيد الدولي ولن تكون ردود الفعل سوى جعجعات واستنكارات."
- "إذا ننفذ اليوم على بركة الحسين والعباس فزينب لن تٌسبى مرتين". قال مندوب السيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الغوطة الشرقية 2013
يركض بابنته الصغيرة إلى المشفى الوحيد في المنطقة فيذهل من هول ما يرى، مئات الأطفال في الغرف وفي الممرات داخل المشفى وخارجه يتلوون من الألم، يختنقون بغاز السارين في مشفى لا أجهزة تنفس فيه، كان يُفترض أن تورّد إلى المشفى قبل سنوات عندما أُحيل عطاء توريدها على ابن خالة سيادة الرئيس فوصله الثمن ولم تصل الأجهزة.
يتراكض بابنته كما يتراكضون، يستغيث كما يستغيثون وما من مغيث، لم يجد ولم يجدوا إلا الماء يغسلون به وجوه أطفالهم، وهل يجدي الماء نفعا مع السارين، ينظر إلى ابنته نظرة العاجز المكلوم.
بوده لو يفديها بنفسه، لو استطاع لشلع رئتيه من صدره لتتنفس بها صغيرته الوحيدة، تنظر إليه نظرة الضعيف تتطلع إلى ركنها الشديد وحائطها العتيد، تتنفس بصعوبة وتكحّ وتسعل كحّا وسعالا لو كانت في الجبال حياة لخرّت على نفسها، وملائكة السماء تستأذن خالقها أن تتدخل والبحار ترجو ربها أن تُغرق والريح تتمنى لو تعصف ...
يمسح بيده على محيّاها الذي علاه غاز السارين ويقول لها رددي ورائي يا صغيرتي:
"يا الله يا الله ... ما إلنا غيرك يا الله"
رددت وراءه ... فرُفع عنها الحجاب فبصرها اليوم حديد، رأت الماضي ورأت الحاضر، رأت المستقبل، رأت نفسها هناك تلعب مع أطفال غزة، وفي كل حين تنادي على ضيفة جديدة منهم "رددي ورائي يا الله ما إلنا غيرك يا الله" ثم تمد يدها وتسحبها ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تل أبيب 2024
- "هل حددتم موقعه؟" يسأل نتنياهو عبر الهاتف من نيويورك.
- "نعم". يجيب غالانت.
- "اقصفوا فورا ولا تتركوا أي احتمال لنجاته". يقول نتنياهو
- "حجم التفجير كبير وسيُثير ضجة عالمية فالمنطقة مليئة بالمدنيين".
- "لا يهم، أليسوا أهالي المقاتلين؟ ويجب أن نُعيدهم إلى حجمهم الطبيعي".
- "ألا تخشى رد الفعل الدولي والرأي العام الغربي؟"
- "كله بجيبتي الصغيرة، نفذ ولا تتردد."
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الضاحية الجنوبية الطابق الرابع عشر تحت الأرض 2024
يدخل مع كبار قادة حزبه وقائد الحرس الثوري الإيراني في سوريا ولبنان يسأل مستفسرا:
- هل تم تأمين المكان.
- نعم يا سماحة السيد.
- هل حضر الجميع.
- جميعهم بلا استثناء.
اهتزّ في السماء السابعة نداء قبل تسع سنوات اهتزّت له ستة مباني في الضاحية الجنوبية
"يا الله ما إلنا غيرك يا الله"
تساقطت المباني فوق بعضها البعض، أُغلقت كل المنافذ إلا نافذة واحدة لم تغلق منذ خلق الله السموات والأرض نافذة السماء، تطاير الغبار وأظلم المكان، تداعت الأجساد ونُزعت الأرواح وفي الدرك الأسفل من المباني حُشر آخرهم يتحسس ما حوله من جثث ممزقة وأجساد مُنتهكة، دخل الغبار إلى رئتيه وتعالت أصوات أنفاسه المخنوقة، يبحث عن الهواء فلا يجده، يستجدي الماء فلا يجد منه قطرة، شُلَّ من شدة الانفجار فهو محبوس في جسده لا تتحرك فيه إلا شفتيه:
- يا حسين يا حسين وما من مجيب.
يبكي بحرقة وينادي:
- يا أبا عبد الله أنقذني أنا السيد أنا السيد.
فيزداد عليه الدرك الأسفل ظلاما ....
- يا عباس يا زهراء.
ظلام دامس ....
- يا مهدي يا علي
ظلام .....
- يا الل...
ينهار عليه السقف ويملأ التراب فمه فلا يكملها
فليس ثَمَّ إلا... ظلام
وكتبه ليث التل
30/9/2024

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق